مصر المحروسة بين حجر رشيد.. وسائق التوك توك (١/٢





مصر المحروسة

بين حجر رشيد.. وسائق التوك توك(١/٢(

أ.د إبراهيم أبو محمد

في المجتمعات الحية يتساءل الناس عن قضية النهضة والتقدم متى بدأت؟

وتخبرنا الدراسات التاريخية أن من أهم الآثار العلمية للحملة الفرنسية على مصر عام  1798-1801م دخول فن الطباعة بمعناه الحديث إلى مصر, ثم اكتشاف حجر رشيد وفك رموز اللغة الهيروغليفية والإغريقية، على يد العالم الفرنسي جيان فرانسوا شامبليون. وقد اكتشف أن النقش المدون على حجر رشيد كان عبارة عن مرسوم ملكي صدر في مدينة منف " عام 196 ق.م. تخليدا لذكرى بطليموس الخامس، وعليه ثلاث لغات الهيروغليفية والديموطقية (القبطية ويقصد بها اللغة الحديثة لقدماء المصريين) والإغريقية،

          ومدينة رشيد لمن لا يعرفها مدينة مصرية تقع في أقصى شمال مصر، على رأس أحد فرعي نهر النيل وتتبع محافظة البحيرة حاليا,  وفي يوم الأربعاء 21 سبتمبر 2016 م وعلى بعد 12 كيلومترًا قبالة سواحل مدينة رشيد بمحافظة البحيرة غرقت مركب, راح ضحيتها ما يزيد على 204 شاب من أبناء الشعب المصري كانوا ينوون الهجرة وسميت مركب الفاجعة المؤلمة باسم مركب رشيد.

          الكارثة المفجعة تفرض عددا من التساؤلات عن مجموع الأزمات التي يعيشها المجتمع المصري ومنها أزمة الهجرة , ولماذا أصبحت الهجرة ضرورة من أجل الخروج من أم الدنيا؟

          ما الأشياء التي جعلت ام الدنيا تضيق بأهلها؟  ولماذا يهاجر الإنسان ويترك وطنه وأهله ويتخلى عن كل الروابط  التي جمعته بالمكان والزمان والناس؟

          هل الضيق في المساحة المكانية أو الجغرافية ومن ثم الضيق في مصادر الثروة؟

        أم الضيق في مساحة الحرية وفقدان الضمير، وانتشار الوساطة والمحسوبية والأزمات الأخلاقية التي نشأ منها الفساد والاحتكار وإساءة استعمال الثروة، وإساءة استعمال السلطة واستغلال النفوذ؟

          الواقع يخبرنا بأن كل هذه العوامل أدت إلى هجرة العقول من موطنها الأصلي لتستثمر أو لتستنزف وتستذل في بلد آخر، كما يحدث الآن في الكفاءات والعقول العربية المهاجرة من أوطاننا؟

          ولكن ما سبب ضيق الأخلاق وفسادها، أهو اختلال الحال واحتلال الوطن بوجود مستعمر محتل من الخارج، أو دكتاتور احتل الوطن من الداخل فكان حاكم سوء مستبد يُقَرّبُ الدنيئ ويبعد البريئ، ويحب المنافق ويقدم الموافق , ويصادر الحريات ويحطم القدرات والكفاءات، ويحقر العلماء، بينما يقدر العوالم ويمنحهم جوائز الدولة.

          وأين الخطط التي تحدثوا عنها وعن دور "مصر أم الدنيا والتي ستصبح أد الدنيا؟ "

          أين التنمية والنهضة والدخول في الركب الحضاري والاستفادة من التكنولوجيا الجديدة في تنمية الموارد والمواهب والاكتفاء الذاتي والعمل على استقلال القرار؟

          أسئلة كثيرة مهمة ومشروعة تصدع الرأس بحثا عن الأسباب الحقيقية جعلت المواطن الحر يترك بلده ووطنه وأهله ويذهب بعيدا ليعيش معاناة الغربة والوحشة، والضياع, ويجازف بحياته في مركب فاقد للشراع والمشروعية لا يلبث أن يسقط في عمق البحر.

        وهي أسئلة مهمة إذا أردنا توصيف الظاهرة وبحث أسبابها ودوافعها وبواعثها وحالة المهاجر ذاته وظروفه وبيئته.

          وهي أسئلة مشروعة لأن بعضها يرتبط بدراسة سيكولوجية الناس على مدى نصف القرن الأخير وما طرأ عليها من تغييرات وعناصر جديدة أكثرها سلبي.

          وثمة سؤال آخر.. هل للمعاني الروحانية العظيمة عن الهجرة والجهاد والصبر وقيام الليل وأداء الفرائض هل لا يزال له سوق وسط سيطرة تجار العلمانية وأدعياء الحداثة على إعلامنا صحفا وجرائد ومجلات وقنوات فضائية؟ هل بقي لهذه الروحانيات مكان وسط بقايا الإنسان الذي تضافرت مؤسسات الشر على تحطيم قيمه وتغييب إيمانه وضغط رسالته والإصرار على بقائه ملتهيا ومجهدا في البحث عن تأمين البيت والسكر والزيت؟

          وإذا كان السؤال في المجتمعات الحية عن قضية النهضة والتقدم متى بدأت ؟

 فإن المجتمعات الساقطة أوالآيلة للسقوط يتساءل الباحثون المهتمون فيها عن قصة الانهيار والسقوط وكيف بدأت؟  لأن السؤال هنا كاشف عن حالة الوحل الثقافي والسياسي والاقتصادي التي تسودها وتسيطر عليها   ومن ثم فالخروج من هذا الوحل يقتضى التقصي والبحث عن أسباب السقوط عملا بالقاعدة التي تعلمنا بأن تشخيص الداء نصف الطريق إلى الدواء.

           السؤال عن البداية في النهضة وعن البداية في السقوط والتردي ضروري لمعرفة اساب الانتصارات والانكسارات، ومعرفة عوامل الإقلاع بالأمم وعوامل سقوطها وانهياراتها .

          معرفة البدايات ومراحل تطوراتها ومواقع الخطر فيها تمنح الدارسين خبرة تساعد على عبور المخاطر وتحقيق النجاح في النهايات.

          والسكوت عن أسباب الانهيار في البدايات يجلب المزيد من الكوارث ربما تكون في النهايات بلا نهاية، وهذا شيء مفزع حقا, لكن الأكثر خطورة وفزعا هو كف العقول والأقلام عن التعرض لهذه الأسباب بحجة الخوف من إشاعة الإحباط واليأس !!!

          السكوت هنا يشكل موافقة علي الانتحار الاجتماعي، ومن ثم فقد تتوفر فيه كل أركان جريمة السكوت على حريق  مدمر  ,  وتبرير هذا السكوت يعد جريمة أكبر لأنه تواطؤ على خيانة وطن وتستر علي جريمة انتحار جماعي  لأبنائه .

          بين السؤالين "سؤال النهضة متى بدأت , وسؤال الانهيار والسقوط كيف بدأ بينهما من البعد في المسافة والعمق في الاعتبار كما بين اكتشاف حجر رشيد في فك رموز الكتابة الهيروغليفية وبين غرق مركب رشيد بضحاياه الذين تجاوزوا ال"204 شاب من أبناء الطبقة الكادحة في المجتمع المصري, وكانت ردود الفعل المروعة والتعليقات من مسؤولين كبار وأفراد عاديين لا تعكس فقط حجم التردي , وإنما تعكس مستوى الحضيض في الرؤية والمسؤولية, وحجم الانقسام المخزي والشماتة حتى في المستوى الإنساني عند الإحساس بالفقد. 

          ومرور الحدث على ما تضمنه من كوارث كغيره من الأحداث النظيرة والشبيهة دون دراسة لظواهر الكوارث المتكررة يعكس أيضا حجم التخبط والتوهان وضياع بوصلة الاتجاه بالوطن, وغياب اليقين بدروب ومنحنيات الطريق الذى نسلكه, أو تجرنا إليه حالة عجز مذل  يعيشها الوطن الآن ، ومصر لم تكن يوما في هذا المستوى من التخبط والفشل.

          الأمر الأغرب والأكثر عجبا أنه بدلا من تأسيس وتكوين مؤسسات لدراسة تلك الظواهر يفرض على الناس الصمت والسكوت تجاهها ويتهم من يتحدث فيها أو يحاول مناقشتها بأنه إخواني الهوى والنزعة - حتى ولو كان مسيحي الديانة – لأنه يشيع الإحباط،

          وأكبر العجائب في أم الدنيا أن يسن قانون للمعاقبة بتلك التهمة الغريبة العجيبة   التي لا توجد إلا في مصر المحروسة، ولا نظير لها في كل قوانين العالم المتحضر منه والمتخلف على حد سواء "تهمة إشاعة الإحباط واليأس" وكأن الآمال ترفرف على أبواب العشوائيات في الدويقة ومنشية ناصر وعزبة الوالدة وغيرها فجاء من يحبط آمالهم ويشيع اليأس فيهم .

           ثورة 25 يناير كانت ثورة أفقية ، بمعنى أنها ثورة شعب بالكامل وليست ثورة فئة أو جماعة يسهل السيطرة عليها والقبض علي قيادتها ورموزها والتخلص منهم،  وهذا هو الذى منحها زخم الاستمرار والقوة ، غير أن المجلس العسكري نجح نجاحا باهرا في شخصنتها وتحويلها من ثورة أفقية إلي ثورة رأسية،  ومن ثم فقد تمكن من شخصنتها في جماعة ورموز وقيادات وكوادر، الأمر الذي مكنه بعد ذلك من  تشويههم وشيطنتهم وتأليب الشعب عليهم،  وتصوير مصر في ظلهم بأنها ستصبح  سجنا كبيرا ، وستمسي خرابا بلقعا ، وقد ساعده على النجاح وتمرير الخداع في خطته ضحالة الوعي السياسي لدى الناس من ناحية،  ثم تجنيد الأزرع الإعلامية وميليشيات النخبة العلمانية والليبرالية واستغلال كراهيتهم لكل ما فيه رائحة الإسلام من ناحية ثانية.

           المدهش في الأمر أن العلمانيين والليبرالين وبقية النخب كانوا قد صدعوا رؤوسنا من سنوات بحديثهم عن الديموقراطية وحقوق الإنسان، فلما جاءت الديموقراطية بالإسلاميين كان انحيازهم للدكتوتورية والعسكر بغير خجل أو تردد، وديست الديموقراطية والانتخابات الحرة وحقوق الإنسان ببيادة العسكر، ومباركة العلمانيين والليبراليين ,الأمر الذي يعكس حالة البؤس في المصداقية، وأن الهوى السياسي هو الذي يملي عليهم ، ويحكم عقولهم وأفكارهم وسلوكهم وليست المبادئ .

          أزمة المركب رشيد لن تكون النهائية , لأنها نموذج مصغر لحالات الفساد والإحباط  التي تنتشر ليس فقط وسط قطاع الشباب ، وإنما بين كل الشرائح والفئات,  وهذا يدل علي نوع من التطور في مصرنة الغضب , أي أنه غضب يتحول من فئة ليكون غضب المصريين جميعا وليس غضب شريحة محددة.

           وهكذا سيغرق كل مركب في الحياة تولي قيادتها لمن لا شرعية له ولا خبرة لديه، وعلينا أن نتذكر هنا القاعدة الذهبية الخالدة التي نبه إليها سيد الخلق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة "

           انتظار الساعة هنا لا يعني خراب الكون كله, فليس من العدل تعميم العقاب على من لا يسئ , وجل جناب الله أن يظلم أحدا , وإنما  هي إشارة لاقتراب ساعة من ارتضي ذلك لنفسه , ومن ْساعد في توْسِيد الأمر إليه.