وادي قنوبين ودّعت منتورتها المزهرة في التسعين.





وادي قنوبين ودّعت منتورتها المزهرة في التسعين.

ودّعت رعية وادي قنوبين كبرى معمراتها، منتورة يونان أبو عيد، ابنة التسعين عاماً أمضتها فوق تراب قنوبين مدركة أنها منه قبل أن تعود اليه. لقد حملت من قنوبين أجمل الاسماء منتورة زهرة الطيب الذي لا يغيب عن مذابح التقوى والصلاة، ونثرته بشهادة حياتها كأنه الوجه الآخر لبخور المحابس والاديار. وأقيمت لها صلاة المرافقة في كنيسة سيدة قنوبين التي رافقتها وحرستها كما حرست واديها بمسابح الصلاة تمجد الله مذ أدركت اشراقة الشمس مرة وحيدة، واستمرت ايامها تتوالى كحلقات المسابح لان شمس قنوبين لا تعرف الغياب. ترأس الصلاة خادم الرعية الخوري حبيب صعب وحضر مختارها طوني خطار وأبناء الوادي والجوار عارفو منتورة وعائلتها والاصدقاء في طليعتهم راهبتا الدير الانطونيات الرئيسة لينا الخوند ومعاونتها سينتيا قسيس.

كان اللقاء حول منتورة تحت أيقونة تتويج العذراء مؤثراً عابقاً بروحانية قنوبين روحانية الفقر والصلاة. لقد كان مأتم الصلاة العميقة الراسخة في صمتها المتأمل والخشوع. مأتم بهاء الرعية الاولى يجمع المؤمنين على الصلاة وعلى تقاسم خبز المائدة الغنية بالخير الذي لا يفنى، على عكس الكثير من مآتم العصر الحديث مآتم الاستعراض وصلوات الشفاه لا القلوب.

لقد اجتمعت عائلة قنوبين حول منتورة ناثرة وعود بخور اللقاء في بيت الآب، وصلّت صلاة المسيحيين الاوائل بايمان راسخ وتقوى لا تزول، وألقى الخوري حبيب صعب عظة تناول فيها سيرة الراحلة المرتبطة بملحمة الحياة التي صاغها أبناء وادي قنوبين مقدمين للعالم نموذجاً فريداً للعيش المؤمن القشف.

لقد عاشت منتورة عهدي وادي قنوبين، عهد فقرائها المنسيين، وعهد سياحها المترفين المترفهين. وفي العهدين كان بيتها، كقلبها، مفتوحاً للجميع، يطعم الاقربين والابعدين. لقد كانت حارثة صبورة لتراب قنوبين ينبت خير الزعتر البرّي ونعناع السواقي، وزيتون المودة والسلام، وأزهار الصليب اليومية، فكانت حارسة أمينة لارث قنوبين الثمين ترافق عناية الخوري حنا لحود، حافظ تراث قنوبين البشري بسجلات الرعية، والذي سكنت منتورة منزله العتيق في ظلال الدير، وعناية الخوري يواكيم مبارك فاتح دروب العودة الى قنوبين. لقد عاشت منتورة وعائلتها صورة ملازمة لدير سيدة قنوبين. فحين تذكر الدير تذكر العائلة اللصيقة به، مصادقة راهباته المغتنيات برسالة الجذور والينابيع، ومصادقة كل قاصد للعبّ من تلك الينابيع التي لا تنضب...

منتورة يونان بو عيد نموذج الذين أمضوا حياتهم في علاقة مثلثة الاطراف الله والارض وهم. هؤلاء عاشوا الحرمان فقراء من ملذات الدنيا المادية وترفها المشبوه، وأغنياء بالله مصدر كل غنى، يتنعمون بوجهه المنير الذي تركه في جنبات واديه المقدس. عاشت صامتة متأملة في وحدة تغني باللقاء بالله. وغابت أو انتهى زيت السراج كما يسلّم المؤمنون الودعاء، غياباً يحمل مفارقة تكمل سيرة القهر والحرمان. لقد توقف قلبها ليل الخميس – الجمعة فيما كانت مع رفيق الدرب زوجها حنا. هذا الذي لصدمته اشكل عليه استعمال الهاتف الخلوي ليتصل بالاولاد. تركها ساكنة في صمتها الابدي وقصد أحد الجيران حيث تعطل الاتصال أيضاً. رجع وحيداً في ليله الحزين حيث كانت منتورة تنتظره جامدة في البيت الترابي العابر، وحيّة في بيت الآب السماوي. سجّاها على السرير القديم، لفها بأحزانه المعتقة وصلّى صلاة المساء المألوفة مع سمعها دون البوح، الى ان جاء الصباح وجاء الاولاد لحقل الصنوبر، فشربوا خبر الغياب قهوة صباح بات بلا أمهم، وسكبوا على مزراب عيني حنا الوالد دموعاً نقية لم يمسحوها الا بحرير ثوب أمهم الابيض المزهر وهي في التسعين، والذي ارتدته منتورة منسوجاً من زنابق مار يوسف، وحملت من بيتها الى قلب سيدة قنوبين حيث مار يوسف يحمل الطفل يسوع... ومنها الى ظلال القديسة مارينا حيث الغفو الدائم في الانوار...

الصور:

1- الصلاة في الكنيسة.

2- ومنها الى مدافن القديسة مارينا.