أحداث فرنسا وحصاد الغضب





أحداث فرنسا وحصاد الغضب

                                  أ.د إبراهيم أبو محمد

من المعروف أن الوجدان الإنسانى يحتوى مناطق ذات حساسية خاصة تثير الإنسان وتغضبه إذا مسها الآخرون بنقد أو تجريح.

          والمقدس وما له عند الإنسان من قيمة فى مقدمة ما تحتويه هذه المناطق الوجدانية الخطرة، ومن ثم يزداد غضب الإنسان وثورته إذا انتهكت هذه المناطق حتى لو كانت باطلة فى نظر الآخرين. حيث تمثل له هو على الأقل خصوصية  طبيعية لا يجوز اقتحامها أو العدوان عليها ولو بمجرد النقد.

        ومن دلائل الحيوية والوعي في حياة الأمم رصد المكاسب والخسارة  ولو للتاريخ والعبرة ـ  بعد كل حدث جلل وبخاصة إذا كان زلزالا أو إعصارا  تمر به الأمة.

ومن غير شك أن أمتنا تعاني مرحلة انكسار وتراجع حضارى يجعلها لا تعيش أزمة واحدة ، وإنما تعيش عصر الأزمات بالجمع ،و  بعض  هذه الأزمات جديد وبعضها يتكرر وتتكرر معه نفس أساليب المعالجات الخاطئة وكأن الأمة فاقدة للذاكرة .

          وتراكم الإساءات المكثفة منذ أحداث 11 سبتمبر وحتى الهجوم على شارلي إيبدو في باريس ربما يفسر لنا سبب انتشار حالة الغضب الإسلامى التى عمت كل البلاد خلال تلك الفترة ، بينما كشفت ردود أفعالنا مناطق الضعف والإثارة لدينا، وقدمت لهم الوسائل لتكرار الإثارة والغضب المبرر ولكنه كان في كل مرة غير محسوب بدقة.

           أضف إلى ذلك عدم الإراك للفرق بين الثقافتين الإسلامية والأوربية وغياب الخبرة بأصول اللعبة خصوصًا لدى العامة من الناس وبخاصة الشباب يسبب لنا مشكلة ويوقعنا أحياناً فى فخ الهياج والظهور بمظهر الهمجى الذى لا يعرف غير الصراخ والهجوم والعدوان على أناس وممتلكات لا علاقة لها  بالحدث إلا لمجرد أنها مملوكة لبلد المنشأ الذى نشأ فيه هذا العمل الهابط والمثير للجدل.

          عشوائية الردود عادة تحول الأنظار من الفعل المجَرَّمِ أصلاً إلى النتائج والآثار، وتحور القضية الأساسية لتصبح مناقشة المبالغة فى غضب المسلمين كلما تعرضت مقدساتهم لنقد يصدر من مجتمعات حرة تفتح الأبواب على مصراعيها لنقد كل شيء عندهم حتى المقدس، ثم إنهم فى واقع الأمر لا مقدس لديهم، وكل شىء يمكن أن يخضع للتجريح والنقد.

          والأعداء الذين يحرصون على اصطيادنا بين الحين والحين يقذفون لنا ببعض الطعم فتستجيب الجماهير بحالات من الهياج الشعبى يحرق ويصرخ ويدمر، ويسقط أعلاماً ويرفع أخرى، وتكون النتيجة أن تتحول الأنظار من الموضوع الأصلي والسبب المباشر في المشكلة إلى النتائج والآثار، وبذلك يتم تحوير القضية والانحراف بها وتحويل الضحية إلى متهم يعتذر ويبرر ما فعله وأنه لم يكن يقصد وإنما هو استغضب فغضب واستثير فثار.

          تكرار نشر الرسوم الميسئة  أثبت أن الآخرين يلعبون معنا فى تلك المناطق الخطرة، وعن طريق خبرتهم المؤسسة على حالات اللاوعى عند بعضنا ينتقلون من اللعب معنا إلى اللعب بنا.

          الجولات السابقة حققت لهم عن طريق رد الفعل حتى الآن مكاسب على مستوى الدعاية ولفت الأنظار إلى ما يريدون انتشاره وتوزيعه وتسويقه بالمجان وعلى حسابنا الخاص لندفع نحن فاتورة وثمن الضربات التى توجه إلينا بين الحين والآخر.

        حادثة شارلى إيبدو  كشفت أيضا جانبا من لعبة ازدواجية المعايير التى يمارسها الغرب معنا، وهي جزء من الوجه القبيح الذى كشفه  الغرب  بعد أزمة فرنسا ليستكمل به ما بدأه بعد11 سبتمبر

          في الجانب الاخر  أظهرت الحادثة  أن مصطلح حرية التعبيرعندهم  مطاط وفضفاض ولا يخضع إلا لمعايير المصلحة باعتبارها وحدها القيمة السيادية وكل القيم بعدها قيم تابعة بما فيها العدالة والحرية وحقوق الإنسان وأن الضجيج العالى الذى يقرع به الغرب  أسماع العالم بالحديث عن هده القيم ليس إلا شعارًا يستعمل للضغط والحصار عند الحاجة إليه كلما اقتضت المصلحة ذلك، والدليل أن الغرب كان ولا يزال السند الأكبر والداعم الأول لألوان وأشكال من الدكتاتوريات والطواغيت التى لم تكتفِ بانتهاك حقوق الإنسان فقط وإنما سحقت الإنسان نفسه.

          فى يقينى أن هذه الإساءة  لن تكون آخر الإساءات، كما لن يكون الغرب وحده مصدرًا لتلك الإساءات، وإنما هنالك بؤر أخرى خلفتها الثقافة الفاسدة لفئة من المثقفين يشدون رحالهم العقلية للغرب ويجعلونه كعبتهم الثقافية فى التنوير والتحوير

          كشفت الأزمة أيضا حجم الهشاشة  الفاضحة في الأنظمة العربية والاسلامية ومركز الدين وموقعه من اهتماماتها ومظهرهم المنبطح  كان نموذجا للهزيمة النفسية وللانكسار الحضارى ، وظهر أصحابنا وكأنهم خارج حدود التغطية ومفصولين  فصلا تاما عن مشاعر شعوبهم  وأنها في واد والزمان والمكان وشعوبهم  في واد آخر  حيث تحولت رموز سياسية بحجم (...  دولة)  الى مجرد طبال أو كومبارس  في جوقة يعزف النغم المطلوب ولو كان نغما شاذا،  المهم أن يكون ضمن النوتة الغربية وأن يشترك في معزوفتها ولو كانت جنائزية تنعي قيمه وثوابت دينه وضياع وطنه وأمته

          بعد هدوء العاصفة في كل مرة يطرح سؤال الأزمة: هل لدى الوجود الإسلامي في الغرب من القوي ما يمكن أن يستعمل في المواجهة من أجل حماية الذات وجعل الأخر يفكر مرات قبل أن يقدم علي إساءة من أي نوع..؟

        كيف نوجه المسلمين في مجتمع الغرب لاستثمار القوي الناعمة لديهم  ؟ وكيف ننتقل من رد الفعل إلى الفعل والتأثير ؟

          وكيف نحول الوجود الاسلامي من مجرد وجود إلي حضور فاعل ومؤثر وموجع أحيانا وبخاصة عند الإساءة  ؟ وهنا لا بد من إدراك الفرق بين الوجود وبين الحضور

          الوجود يعني أنك رقم في العد  والإحصاء بالنقص أو بالزيادة ، أما الحضور فيعني أنك حي وعلى الآخرين أن يحسبوا لحياتك حسابها لأنك قادر على تحويل  عاطفة الغضب إلي فعل  يكلف من تسببوا في الغضب ثمنا غاليا.

          كيف نجعل كلفة الاستثارة كبيرة على من يجرؤ عليها وعليك

        كيف نعين ونساعد المسلمين في الغرب على اختيار مرجعيات دينية واعية تتمسك بأصولها وتعيش عصرها وزمانها ولها قدرة  علي إدارة الأزمات

          أزعم هنا أن فهم طبيعة الغرب ومكوناته البشرية وعدم الخلط بين الشعوب وبين مراكز القرار وكيف يفكر قادة السياسة وقادة الرأي فيه يساعدنا ولو على إجابة سؤال واحد من أسئلة الأزمة حيث لا يتسع المجال في مقال واحد لبحث بهذا الحجم ومن هذا النوع 

          أحسب أيضا أنه من المفيد هنا أن نشير إلى أن علاقة الشرق والغرب مرت بمراحل كانت تبدأ عادة بسوء الفهم الذى يولد التوترات ثم يتطور إلى خطاب التقاطع فالصراع، حتى جاءت مرحلة الحوار فكان هو أول وسائل الفهم وأول مراحله أيضًا، ومن خلاله بدأت محاولة اكتشاف الذات والآخر، ليعيد كل من الشرق والغرب اكتشاف نفسه من جديد ثم اكتشاف الطرف الآخر، ولقد تبين من خلال الحوار والواقع أن الغرب ليس كله فى سلة واحدة، وأنه لا يصح أن نقع فى خطيئة التعميم؛ وربما كان من العدل وإنصاف الغير من أنفسنا أن نستعرض تلك العلاقة الحساسة فى حقيقة أبعادها الثلاثية التى تتمثل فى الغرب كشعوب، ثم تتمثل فى الغرب كتجمع للأكاديميين والباحثين وثمار جهودهم في المنتج الحضارى الذى نستعمله، أما المستوى الثالث فهو الغرب كمراكز للقرار.

           فى البعد الأول "الغرب كشعوب"، ومن خلال رؤية تكونت من تجربة شخصية رصدت هذه الرؤية علاقات فيها الكثير من الاحتكاكات بأنماط من البشر على مختلف المستويات الثقافية والشعبية فى مجتمع الغرب وعلى مدار أكثر من خمسة عشر عامًا أستطيع أن أؤكد أنه ليس بيننا وبينهم عداء ولا يجوز أن يكون، كما أن العلاقة بهم يحكمها فى الأصل ضوابط حسن الصلة فى التعاون المشترك وحسن الجوار واحترام الحقوق، ومن ثم يجب أن نتعامل معهم لا بحسبانهم أعداء، ولا حتى خصوم حضارة وثقافة، وإنما باعتبارهم شركاء لنا فى الأصل الإنسانى وفى الوجود، وفى المواطنة وحقوق الحياة العامة حتى وإن اختلفت الثقافة والتقاليد والحضارة والأيديولوجيات، فخصوم الثقافة والحضارة وحتى الأيديولوجيات يمكن أن تتعايش معهم فى القاسم  الإنسانى العام، بينما الأعداء تحكم علاقتك بهم قوانين الصراع والغلبة وانتظار الفرصة من كل طرف ليقضى على الطرف الآخر بلا هوادة أو رحمة، ومعنى ذلك أن الجانب الإنسانى غائب تمامًا فى ذلك الصراع، وأنه أشبه بصراع الوحوش فى الغابة حين تنقض على فريستها دون اعتبار لقانون.   تداخلت العلاقات واختلطت الناس ببعضها، وامتزجت الثقافات والتقاليد ولم يعد غير بعض الحواجز النفسية التى تحملها الذاكرة التاريخية لدى بعض الأشخاص.

 ولقد ساعدت ثورة المعلومات وما صاحبها من تطور تكنولوجى مذهل على ذلك، حيث أضافت بعدًا جديدًا فى العلاقات الإنسانية جعلت سكان العالم كله رغم تعدد أجناسهم ولغاتهم وتباعد المسافات بينهم يستشعرون أنهم يعيشون فى قرية واحدة.

ومن ثم فلم يعد الغرب غريبًا على الشرق ولا الشرق غريبًا على الغرب.

        كما أن كثيرًا من أهل الشرق يعيشون الآن فى الغرب وقد أقاموا مشروعات وأسسوا شركات وبنوا بيوتًا وعمارات وتزوجوا هناك وأنجبوا، وكان للأغلب والأعم من هؤلاء بصمات رائعة فى مجالات مختلفة قدَّرها واعتز بها وكرَّم أصحابها مؤسسات رسمية وشعبية فى مجتمع المهجر، ومن هنا فلم يعد للتوتر مكان ولا معنى فى تلك العلاقة المتشابكة، ومن مصلحة الجميع أن يتولد لديهم الإدراك الواعى بأن الجميع يركبون مركبًا واحدًا، فإذا غرق المركب غرق الجميع، ولذلك وجب عليهم جميعًا أن يتعاونوا على إنقاذ كوكبهم مما يتهدده من كوارث مجنونة يصنعها تجار الحروب ولصوص البشر وسراق الأحلام.

           نعود ونؤكد أن الخطأ فى التعميم والتعامل معهم بأنهم أعداء سينسحب حكمه على المساحات الشعبية الغاضبة فى الغرب ذاته على ممارسات قادته ومراكز القرار فيه.. ومن ثم يفقدنا القدرة على الفرز والاستفادة من تلك المساحة فى الضغط لإحداث التوازن المطلوب فى تدعيم قضايانا المحلية والإقليمية والدولية، وهو توازن نحتاج إليه بشدة ، وقد تسبب غيابه فى ضياع الكثير من حقوق العرب فى المحافل والمنظمات الدولية، ولعل النموذج الصارخ الذى يمثل هذه الخسارة هو عدم قدرة العرب حتى الآن رغم كل ما قدموه من تنازلات فى الحصول على اعتراف دولى بحق الفلسطينيين فى تحقيق إقامة دولتهم.

          في استراليا بعد أحداث فرنسا حدثت محاولة بائسة وفاشلة لحرق أحد المساجد كما ورد للشرطة بلاغ بعزم بعض المتعصبين بتفجير مسجد آخر ورصدت كاميرات التصوير رجلا ملثما يحوم حول المسجد وانتشر الخبر بين سكان المنطقة فهب مايقرب من مأتي رجل وامراة استراليين وجلسوا في داخل المسجد وقرروا حمايته بأنفسهم وببقائهم فيه

           الواقعة صورتها كاميرات القنوات الإخبارية وتناقلتها وكالات الأنباء ولذلك نؤكد ونكرر أن  خطأ التعميم يفقدنا البصيرة التى تساعدنا على حسن إدارة العلاقة بأهل تلك المساحة؛ لأننا سنسوى فى الحكم بين الجانى المتعمد والبرىء الغاضب منه والمعترض عليه.

           كما أن خطيئة التعميم تجعلنا نخسر مساحة ضخمة من عموم الناس الذين هم ضحايا الغش الثقافى وعمليات غسيل الأدمغة التى تقوم بها الآلة الإعلامية فى الغرب نفسه، وضحايا هذه الآلة هم ضحايا أيضًا لغيابنا عن الساحة حيث لم نشرح ما لدينا ، بل لم ندافع أصلاً عن أنفسنا وقضايانا بالشكل والأسلوب والمنهج الذى يليق بنا ويتفهمه هؤلاء.

          وبدلاً من إحياء مساوئ الصراع والنفخ فى رماد الفتن ليشتعل من جديد، علينا أن نحقق أشواق البشر فى بناء علاقات إنسانية حضارية يسودها العدل والكرامة والحرية، ويحظى الإنسان فيها بأمانه الثقافى والنفسى والمادى، وتلك غاية يجب أن يعمل  من أجلها كل الشرفاء  وأنا على يقين أنهم كثر.

          وإذا كان المسلمون كلهم محمدا  فعلينا أن ندرك أيضا أن الآخرين  ليسوا كلهم شارلى .

      المفتى العام للقارة الأسترالية