كلمات في غياب الدكتور كلوفيس مقصود

الدكتور كلوفيس مقصود.. الغائب الحاضر - وليد الكيلاني

كلوفيس مقصود أفق ساطع - ميشال اده

سقوط آخر دعاة نهضة القومية العربية - سليم نصار

وصية المفكر العربي كلوفيس مقصود:

يجب إعادة ضبط المفاهيم و"تنبهوا واستفيقوا أيها العرب"..! بقلم: د. نهى خلف

كلمة المطران خضر في تأبين كلوفيس مقصود بكنيسة الشويفات - لبنان




الدكتور كلوفيس مقصود.. الغائب الحاضر

وليد الكيلاني

غاب عنا الدكتور كلوفيس ولكنه عن القلوب ما رحل. فسيبقى في قلوب وعقول محبيه نورا وسراجا للإنسانية وداعية للعدل والسلام وشمعة عروبية لا تنطفئ. نعم سيكون حاضرا بيننا وإن غاب عنا فإنه الغائب الحاضر.

أول ما التقيت بالدكتور كلوفيس مقصود كان عام  1959 حيث كنت طالبا في السنة الثالثة بكلية  تجارة عين شمس بالقاهرة وزار الكلية الدكتور كلوفيس ليقدم ندوة سياسية عن الوحدة بين مصر وسوريا.ولا أزال أذكر جملة كلها حكمة قالها لنا. إن ما هو أهم من الوحده هو المحافظة عليها .المرة الثانية التقيت بالدكتور كلوفيس عام 1999 في واشنطن العاصمة وكان برفقة زوجته المناضلة الرائعة المرحومة الدكتورة هالة سلام ، وذكرته بندوة  القاهره فقال لي بخفة دمه المعتادة وبديهته الحاضرة "وليد ما تعيدها بعدين بعرفوا أديش عمري".أطلعت كلوفيس على أشعاري وأبدى إعجابا شديدا بها وكنت أرسل له قصائدي الجديدة وفي حالات محدودة اتصل به تلفونيا وكان دائم الاهتمام ويقدم لي ملاحظاته. وقد أرسل لي رسالة عندما بدأ الربيع العربي يعكس إتجاهاته وقال لي أدعوك أن تنتبه لما يجري وتتأمل مواقفك وتأخذ الحذر. وكنت دائما أتابع مقالاته الرائعة على موقع "مركز الحوار" . وعند رحيل الشاعر الكبير سميح القاسم تم في صندوق القدس بواشنطن العاصمة إقامة ندوة في ذكرى سميح وكان على رأس المتكلمين كلوفيس وكعادته تكلم في الصميم عن الوطن والعروبة وفلسطين . ولما أتى دوري ألقيت قصيدة أرثي بها سميح القاسم. وعندما انتهيت ضمني كلوفيس وقال لي معلقا نعم يجب أن لا نفقد الأمل فقضايانا تمتد للأجيال. لقد كان المرحوم الدكتور كلوفيس إنسانا رائعا لم يكن طائفيا أو مذهبيا بل كان عروبيا في إطار إنساني متسامح . لم تفارقه القضية الفلسطينية ولم يفارقها. ولم يتخل في يوم عن مبادئه.وكان دائما إيجابيا واقعيا يحفز الهمم ويحلل المواجع.

بعد أن رجعت إلى  تكساس من الندوة تفاعلت مع كلمات أستاذي الدكتور كلوفيس وخاصة في ما يتعلق بأنه يجب أن لا نيأس وأخذت في كتابة قصيدة بالعربية والإنجليزية وعنوانها "اليأس عدو الإنسان والحب طريق الرحمن                                                    “Despair is the Enemy of Humankind ,Love is the way to God”

وراجعت النص باللغة الإنجليزية الشاعرة المعرفة نيومي شهاب وهي شاعرة قديرة ومشهورة عالميا. وكان والد نيومي المرحوم عزيز شهاب صديقا عزيزا علي  وكان صحفيا  وكاتبا مشهورا . وأصله من قرية سنجل القريبة من القدس وقد نقلت نيومي حياة الريف الفلسطيني الى قصص الأطفال بعد أن زارت سنجل وتعرفت على جدتها ،حيث كتبت قصة ستي وقصة حبيبي من القصص المشهورة في أدب الأطفال في الولايات المتحدة.

طلبت نيومي مني أن أرسل قصيدة اليأس عدو الإنسان الى قداسة البابا فرنسيس وإلى  الرئيس جيمي كارتر ففعلت .وجائني بعد فترة جواب جيد وتعليق جميل من كل منهما. وجاء في رسالة الفاتيكان أن قداسة البابا يقدر مشاعرك المخلصة ألتي أدت إلى هذا الإنتاج الفكري المدروس ويؤكد لك أنه سيذكرك في صلواته ويقدم لك بركاته. هذه الكلمات والبركات يستحقها ملهمي وأستاذي وحبيي الذي أوحى كلامه لي بالقصيدة والذي  يطلب منا أن نرفض اليأس . وقد كتبت القصيدة وكلماته ترن في أذني. إنني أرى صورته دائما أمام عيوني فليباركك الله ويرحمك يا دكتور كلوفيس يا أخي الكبير ومرشدي وحبيب الإنسانية . أنت يا شعلة لم تهدأ ولن تنطفئ لأنها ستظل مضيئة في قلوبنا.

كــلوفيس يا شعلــة للحــق والعـــدلِ

قـد غـبت عـنا ولكن أنت في الـمـقلِ

أوصـيتنـا دائـمــا بـالصـبر والأمــلِ

يا مرشدي يا ملهمي أرثيك يا بطلي

هـذي فـلـسطين قـد لـفتـك بـالـعـلـم

سانــدتها دائـمــا بالـفكـر والقــلــم

دافــعت عـن حـقـها دومـا ولـم تــنــم

ونـصـرتــها واثــبا فـي هــيئة الأمــم

أهدي إلـيك من الأقــصى جراحـاتـي

ومن كنائس القدس يا كلوفـيس آهاتي

فأنت مني وفـي روحي وفـي ذاتــي

أنــت الشريك لأحـزاني  ومأساتـي

علمتنا كـيف نـحمي الـحق بالعمــلِ

وأن نـيل الأمـاني لــيس بـالسهـــلِ

وأن فـرقـتنا تـقـضي عــلى الأمــلِ

تحـيتي لـك يا عـمـلاق يـا  أصـلـي

 

كلوفيس مقصود أفق ساطع

ميشال اده

20-05-2016

منذ أيام معدودات، في 15 أيار الجاري، باغتنا اللبناني الماروني كلوفيس مقصود بمفارقة الحياة.

إنه اليوم الذي تقع فيه ذكرى تقسيم فلسطين عام 1947. فيا لغرابة هذا القدر الذي لم نشهد فواجعه القتّالة إلا في المسرح الإغريقي القديم!

لقد مشينا يومها في التظاهرة ذاتها من أجل فلسطين ضد تقسيمها. مثلما كنا معاً في خمسينيات القرن المنصرم نتلمّس قضية فلسطين بكونها القضية المركزية. فإسرائيل الوليدة لن تكتفي بقسم من فلسطين، ولا حتى بكل فلسطين ما دام لبنان حياً بصيغته الكيانية القائمة جوهرياً على التنوّع الديني والتعدد الثقافي. أي بصيغة التنوّع ذاته الذي كانت فلسطين، هي الأخرى، تتسم به.

كلوفيس مقصود، اللبناني، وجد في القضية الفلسطينية جوهر القضايا العربية بعامة. رأى إلى العروبة بإحيائها ضالته المنشودة، مستنداً إلى ذلك، وبالتأكيد، إلى الريادة اللبنانية في إطلاق النهضة العربية التي بزغت في بيروت، لتشعّ أنوارها كذلك في مصر وسوريا والعراق وحتى في بلدان المغرب على أيدي الرواد اللبنانيين، المسيحيي الديانة بغالبيتهم. أجل، في لبنان، وُلدت يقظة جديدة، عربية، لا دينية ولا عرقية، تحررت من نير التتريك الطوراني، وأرست نهضة أدبية فكرية، علمية، تعليمية أكاديمية، حديثة.

لقد ذهب هذا المفكر النيّر كلوفيس مقصود إلى حد اعتبار القضية الفلسطينية اختزالاً مكثفاً لتلك العروبة المستنيرة، النهضوية. وكان الرسول الجوّال الداعي إليها في دنيا العرب، لا سيما في الدول التي ارتفعت فيها مقولات التحرر العربي والوحدة العربية وشعاراتهما. وفي هذا المضمار، اصطدم بالعديد من الممارسات والوقائع والمواقف التي تناقض الشعارات المرفوعة. صُدم لكنه لم ييأس.

ثابر على متابعة المحاولات، والمبادرات، في المواقع المختلفة، ممثلاً لجامعة الدول العربية، جوالاً داعية لا يستكين من أجل القضايا العربية. لم يدع منبراً أكاديمياً أو فكرياً، أو سياسياً، إلا واعتلاه من أجل فلسطين التي ظلت في يقينه وفي كفاحيته قضية القضايا.

عروبته ظلت حصانته، متشبثاً بها أفقاً اعتبره الأوحد الممكن، أقله لبقاء العرب في التاريخ، فيما بدأ يعاين إخراجهم المنهجي منه، وحتى من غير بطء، على أيدي الأنظمة الأحادية وعسسها، وهي هي التي هندست انقلاباتها العسكرية، وتأبيد حكمها المطلق، باسم القضية الفلسطينية. لقد استغرب أحد كبار القادة العرب أن يكون مقصود «شيخ العروبة» وهو يحمل هذا الاسم. لم يأبه كلوفيس، بل ثابر على الحلم مؤكداً ما ذهب إليه شكسبير في واحدة من تراجيدياته: «إننا نشبه أحلامنا أكثر ممّا نشبه الوقائع المحدقة بنا».

وهذا حتى بعدما أُسقط في يديه، فحمل رحاله ليحطّها بعيداً عمّا أسماه الشهيد المفكر الكبير كمال جنبلاط «السجن العربي الكبير»، بعدما أسقط في يديه هو الآخر. وكان على وثيق المعرفة به، بل شاركه لفترة، العمل الفكري الكفاحي في مطلع حيوية هذا الرجل اللبناني التاريخي الحضور في لبنان وفي دنيا العرب، وحتى الأبعد منها كذلك.

في الولايات المتحدة الأميركية استقرّ كلوفيس مقصود. لم يتخلّ عن اقتناعاته ولا عن حلمه بالأخص. وظل من موقعه الأكاديمي اللامع يرفع لواء القضية الفلسطينية.

هو وهي صنوان لا يفترقان. هوية واحدة. هي ذاتها الهوية التي قال فيها محمود درويش وجعه الفلسطيني العميق العميق، بعدما حطّ رحاله هو الآخر في بيروت مؤْثراً الإقامة فيها على مصر وسوريا وغيرها من بلدان الأشقاء؛ ومنشداً على رؤوس الأشهاد: «بيروت نجمتنا الوحيدة، بيروت خيمتنا الأخيرة...».

لست أدري ما إذا كان راحلنا الكبير كلوفيس مقصود قد اغتبط بهذا الوجع الفلسطيني الحر. لكنني على ثقة تامة بأنه ودّعنا، وبقلبه ودماغه، يقين قاطع بأن الهوية فعل تغيير. فعل مستقبلي أكثر مما هو فعل ماض. كلوفيس مقصود فلسطيني أبداً. مستقبليّ أبداً. رغم كل الانتكاسات والخيبات التي تُسأل عنها أصلاً السلطات والقيادات العربية، بما فيها القيادات الفلسطينية، والحالية منها بالأخص، وبكل ما تثابر عليه من تواطؤ ومن استسلام. لكن هذا كله، لم يلغِ القضية الفلسطينية. لن يقوى على إلغائها. رهان كلوفيس مقصود لم يكن على هذه القيادات أصلاً، لا سيما بعدما أدرك معدنها وهواجسها المتشبثة بكراسي الحكم، مستقوية إلى ذلك بالمتاجرة بهذه القضية.

هذه القضية باقية لبّ المشكلة، ولبّ الصراع. فأبناء الشعب الفلسطيني، أطفاله بخاصة وأبناؤه، هم من يحملون الراية انتفاضة تلو انتفاضة تلو انتفاضة، وإن بالحجارة والسكاكين، يتابعون مسيرة أجداد أجدادهم، وآبائهم، ويتعلمون أكثر فأكثر كيف ينضجونها، وكيف يبنون زعزعة هذا الكيان الصهيوني لَبِنَةً لبنة، جيلاً بعد جيل. من هذا النبع الذي لا ينضب ارتوى حلم كلوفيس مقصود. ولم يتقاعد.

 

سقوط آخر دعاة نهضة القومية العربية

سليم نصار

صحيفة "الحياة" -  السبت، ٢١ مايو/ أيار ٢٠١٦

قبل أن أنضم إلى الصحافيين الذين كانوا ينتظرون فتح باب قاعة الجمعية العامة في مقر الأمم المتحدة، رأيت وزير الدفاع الهندي كريشنا مينون يتمشى وحيداً وقد تأبط عصاه الغليظة.

وبما أنني قرأت الكثير عن خطب الوزير مينون، المرشح الدائم لخلافة أنديرا غاندي في رئاسة «حزب المؤتمر»، لذلك استغربتُ إهمال الإعلاميين حضوره. وتبين لي بعد الاستيضاح، أن سمعة هذا الوزير مع الإعلاميين لم تكن ودّية، بدليل أنه كثيراً ما كان يستخدم عصاه لإبعادهم عن فضائه المغلق.

ورغم أسلوبه الفج في معاملة الإعلاميين، فقد مشيتُ نحوه، لأقطع عليه مشوار المراوحة الذي كان يمارسه بارتياح أمام فسحة المقهى الداخلي. وفوجئت برد فعله وهو يمتشق عصاه كأنها سيف في يمينه، وينهرني بالابتعاد عنه، وإلّا عليّ أن أستعد لتلقّي ضربات موجعة. ثم سألني بلهجة اعتراض: من أنت، وماذا تريد؟

أجبته على الفور: أنا من لبنان. وقد جئتك بتحية خالصة من صديق الهند كلوفيس مقصود. ولما سمع اسم كلوفيس، تبدّلت ملامحه وانفرجت أساريره، وراح يعتذر عما بدر منه. ثم دعاني إلى الجلوس معه في المقهى، للاستماع إلى أخبار صديقه كلوفيس الذي تعتبره الهند واحداً من أبنائها.

ولما انصرف الوزير الهندي، انهالت عليّ أسئلة الزملاء ممن توقّعوا عكس ما حصل من سياسي لا يتسع صدره لمحترفي البحث عن المتاعب. وطالبوا بإلحاح بأن أزوّدهم كلمة السر التي دجّنتُ بواسطتها العازب الغاضب كريشنا مينون، فقلت لهم: «كلوفيس مقصود».

أخرجت هذه الواقعة من خزانة الذكريات بعدما أبلغني الصديق المشترك المهندس جورج زاخم، بأن كلوفيس تعرّض لنزيف دموي في الدماغ، وأن حاله الصحية تدعو إلى القلق.

ويقود حديث الذكريات إلى أول مهمة ديبلوماسية دشّن من خلالها كلوفيس مرحلة خصبة من حياته، حين أمضى خمس سنوات في نيودلهي مندوباً لجامعة الدول العربية (1961- 1966).

وتشاء الصدف أن يكون الشاعر عمر أبو ريشة سفيراً لسورية في الهند، الأمر الذي سهّل ظروف العمل أمام الشاب الآتي من لبنان، والمعجب بتجربة أكبر دولة ديموقراطية في كل آسيا. وبسبب صداقة أبو ريشة مع رئيس الوزراء جواهر لال نهرو، دلف كلوفيس إلى دهاليز المنظمات المدنية والمؤسسات الرسمية بسرعة لم يكن يتوقعها.

ولما زرتُ نيودلهي، والتقيتُ عناصر من «نادي الصحافة»، أخبرني صاحب مجلة «شنكر» - أشهر مجلة كاريكاتور في البلاد - بأن كلوفيس مقصود كان حاضراً في فضاء الهند قبل أن يدخله مرة ثانية. وكان بهذا الكلام يشير الى المرونة الديبلوماسية التي يتحلى بها مندوب الجامعة الجديد، وإلى سهولة اندماجه في مجتمع معقّد قادته حركة المهاتما غاندي إلى الاستقلال والحرية بعد استعمار قاسٍ وطويل.

الانبهار السياسي الذي عبّر عنه كلوفيس مقصود في كتبه ومقالاته حول «معنى عدم الانحياز»، كان نتيجة قناعة راسخة بأن نشوء قوة عالمية ثالثة يمكن أن يضمن التوازن ويحقق العدالة لشعوب العالم الثالث.

وسمعتُ كلوفيس يتحدث عن تأثُّره بالإخراج السياسي الذي طلع به الزعيم السوفياتي خروتشوف حول دور بلاده في استمالة دول عدم الانحياز. وكان وزير الخارجية الأميركي يومها فوستر دالس، قد كرر لازمةً مفادها: من ليس معنا... فهو ضدنا. وردّ عليه خروتشوف بعبارة إيجابية تقول: من ليس ضدنا... فهو معنا. وهكذا نجحت موسكو في استمالة دول عدم الانحياز إلى جانبها.

ورأى كلوفيس من موقعه في الهند، كيف تنمو وتتطور تلك الكتلة بمؤازرة نهرو وتشجيع جوزف تيتو وحماسة جمال عبدالناصر وشعبية أحمد سوكارنو وكوامي نكروما.

المرحلة الثانية في حياة كلوفيس مقصود لم تكن مشرقة وواعدة كالمرحلة الأولى التي أمضاها في الهند. خصوصاً أنها جاءت بخيبات أمل كبرى نتيجة انهيار مشروع «دول عدم الانحياز» وهزيمة بطله جمال عبدالناصر سنة 1967. لكنه وجد في تطمينات محمد حسنين هيكل بعض العزاء المشترك، خصوصاً أنه قدّم له فرصة في صحيفة «الأهرام» للدفاع عن النكسة، وتداعياتها السياسية والعقائدية.

بيد أن هذا العزاء الموقت لم يعوّض عن الانهيار الإقليمي الذي أصاب حركة القوميين العرب في الصميم، وأوجد لدى كلوفيس حالاً من الضياع والتشتُّت الذهني.

وللتدليل على الأثر البالغ الذي أصاب المفكر والديبلوماسي والمنظّر كلوفيس، أخبرني محمد حسنين هيكل الطرفة التالية. قال إنه كان متجهاً إلى المطار للقيام برحلة إلى اليمن بمشاركة كبار القادة العسكريين، عندما أبصر كلوفيس قرب مبنى «الأهرام» وهو يتأبط رزمة من الصحف والمجلات. وترجّل من السيارة ليقنعه بضرورة مرافقته في رحلة داخلية فوق الأراضي المصرية، ربما تخفف من الإرهاق الذي يعانيه، أي أنه لم يخبره بأن الطائرة متوجهة الى اليمن لئلا يستصعب الرحلة.

وبعد الرجوع الى القاهرة، رأى هيكل أن كلوفيس شارد الذهن، مطأطئ الرأس كأن أمراً عصياً يقلق باله. وبعد مرور ساعتين تقريباً، دخل كلوفيس مكتب هيكل ليسأله باستغراب: لماذا ترتدي القوات المصرية المسلّحة في الصعيد، ثياباً مختلفة الألوان عن قوات القاهرة؟!

وكثيراً ما كان هيكل يردد هذه الحكاية أمام أصدقاء كلوفيس وبحضوره أيضاً، للتدليل على أن همومه كانت مختلفة، وأن مسؤولياته كانت منصبّة على معالجة القضايا التي يعتبرها مصيرية. لذلك اتهمه بعضهم بإهمال المسائل العائلية والشخصية.

في العام 1956، التحق كلوفيس بجامعة أوكسفورد للتخصص في القضايا المتعلقة بالدفاع عن شرعة حقوق الإنسان. واختار لأطروحته جانباً مثيراً كان من الصعب إيجاد مستندات داعمة له في مصادر المؤلفات. وبما أن الأستاذ المشرف على الأطروحة كان يطالبه بتعزيز الآراء بإسنادات علمية، فقد قرر كلوفيس تزويد جريدة «النهار» بمقال أسبوعي راح يستخدمه وثيقة لدعم آرائه السياسية والفكرية في الأطروحة الجامعية.

وقد ساعدته الخلاصات في الفصل المتعلق بحرب السويس في 1956، على إنهاء سنته الجامعية بأقصر مدة ممكنة، وفق شهادة وليد الخالدي والياس سابا. كما عبّدت له المقالات التي نشرها في «النهار» منتصف الخمسينات طريق العبور إلى صداقة غسان تويني الذي ضمه إلى أسرة «النهار العربي والدولي».

في العام 1974 تزوج كلوفيس للمرة الثانية من هالة مالك سلام التي عوّضت بحضورها الآسر عن سنوات عزوبيته الطويلة. ورغم انفجار الحرب اللبنانية عقب زواجهما بسنة واحدة، إلا أن هذا الثنائي المناضل وجد متعة خاصة في ترويض الحركات المعادية لاسترداد ما فُقد من سيادة وطنية في حرب حزيران (يونيو) 1967.

ويستدل من مراجعة الحقبة التي جمعتهما تحت سقف واحد في واشنطن، أن 28 سنة كانت كافية لترسيخ تعاونهما، وتوسيع عملهما المنظم في إطار المجالس التي أشرفت هالة على تطويرها ورعايتها في الولايات المتحدة. لذلك استحقّت مقابل إنجازاتها الإنسانية أرفع الأوسمة في بلاد المهجر.

وعندما توفيت هالة في نيسان (أبريل) 2002، شعر كلوفيس بجسامة الفراغ الذي أحدثه غيابها في حياته الاجتماعية والديبلوماسية. ووجد في عملية الانخراط في الحقل الأكاديمي العزاء الكبير عبر المركز الذي أنشأه في الجامعة الأميركية في واشنطن. كما وجد في كتابة مذكراته «من زوايا الذاكرة»، متنفساً للضغوط التي حملها في صدره طوال نصف قرن، وهو يرى الانقسام والتشرذم يعملان في جسد القومية العربية، نهشاً وتنكيلاً.

عندما نعته وزارة الخارجية اللبنانية، أطلقت عليه لقب «خطيب القضية العربية»، ووصفته ريما خلف، الأمينة التنفيذية لـ «إسكوا»، بأنه «كان أعلى ما يجب أن يكون عليه الإنسان العربي».

وأذكر جيداً أن صديقه سفير اليمن السابق في واشنطن وأحد رؤساء وزراء الثورة محسن العيني، قدّمه في أمسية ديبلوماسية بكيس رمل التدريب على الملاكمة. ولما استوضحتُه عن رمزية هذا الوصف، قال لي إن جميع السفراء العرب في الأمم المتحدة وواشنطن يحتمون وراء كلوفيس الذي أثخنته الجراح حتى الموت...

ألف رحمة الله على جهوده، وعلى القومية العربية التي ماتت مع آخر رموزها.

 

وصية المفكر العربي كلوفيس مقصود:

يجب إعادة ضبط المفاهيم و"تنبهوا واستفيقوا أيها العرب"..!

بقلم: د. نهى خلف

16أيار 2016

في كلمة هامة ونادرة للمفكر العربي كلوفيس مقصود، الذي قضى يوم 15 أيار 2016، قام السفير السابق للجامعة العربية في الأمم المتحدة والأستاذ الجامعي والمفكر المخضرم في موضوع القومية العربية وعدم الإنحياز، بإلقاء كلمة أمام مجموعة من المثقفين والباحثين العرب في معهد العالم العربي في باريس في 4 و5 حزيران 2013.

جاءت هذه الكلمة كاستجابة لدعوة وجهناها له لافتتاح ندوة بعنوان "مئة عام على القومية العربية: تحليل ونقد"، وذلك بمناسبة مرور قرن من الزمن على "المؤتمر العربي الاول" الذي انعقد في الجمعية الجغرافية في باريس في حزيران عام 1913.

لم يتمكن يومها الدكتور كلوفيس مقصود من الحضور شخصيا لأسباب صحية، ولكنه أرسل لنا كلمته مسجلة بالفيديو وقد عرضناها في افتتاح هذه الندوة الأكاديمية والتي حضرها عدد من الباحثين والأساتذة الجامعيين، معظمهم من العرب، الذين جاؤوا من عدة أماكن تلبية للدعوة رغم الميزانية الضئيلة لهذه المبادرة التي قمت بها شخصيا، بعد استشارة بعض المؤرخين والباحثين عبر العالم، والذين تحمسوا لهذه الفكرة حيث شكلنا بالتنسيق معهم لجنة علمية مكونة من الدكتور المؤرخ رشيد الخالدي والدكتور رشاد انطونيوس والدكتور عيسى قدري والدكتور محمد طربوشو ومجموعة أخرى من الباحثات والباحثين. ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد إننا واجهنا كثير من العوائق والعراقيل والحجج في باريس التي هدفت الى تعطيل هذه الندوة، فمن أهم الحجج المعلنة ان الوقت غير كاف لتحضيرها وان الأموال غير كافية ..الخ. وفي واقع الحال كان تخوفنا ان تعرقل الحالة المتوترة في سوريا ومصر في تلك الفترة انعقاد الندوة بسبب الاستقطاب والصراع الايديولوجي  ولكن تصميمنا على عقد المؤتمر في شهر حزيران وبعد مئة عام بالضبط من انعقاد المؤتمر العربي الأول اختيارنا لنخبة من المثقفين الوطنيين الموضوعيين، حال دون حدوث أية مشادة أو خلاف، بل عبر التركيز على ما لم تحققه القومية العربية عبر قرن مع الاعتراف بأهمية فكرة "العروبة" وضرورة إحيائها.

وعندما سمعت برحيل كلوفيس مقصود، قمت بالاستماع مرة أخرى لهذا الشريط المسجل الذي أرسله إلينا آنذاك، لأكتشف بدهشة أهمية وغزارة النصائح التي وجهها في مداخلته وإلى مدى إهتمامه العميق والصادق والعفوي بالمبادرة المتواضعة التي قمنا بها، إلى درجة انه عبر عن عقده آمالا علينا، لم نكن نحن قادرين عليها في واقعنا العربي المشتت جغرافيا والمتنوع فكريا.

إنني أعتبر مداخلته في منتهى الأهمية لأن كلوفيس مقصود تحدث إلينا وكأننا الجيل الصاعد الذي سيعيد رفع راية الوحدة والقومية العربية المستنيرة وليس كمجموعة من الأكاديميين. تحدث كمفكر وليس كسياسي أو دبلوماسي أو إعلامي أو كأستاذ جامعي. تحدث كمفكر عربي عن ألمه من الوضع السائد في العالم العربي، وتوجه الينا "كرفاق الطموح إلى الوحدة العربية ورفاق المعاناة التي نختبرها في هذه  الأيام".

وبدأ كلمته  بالاشارة الى مقولة ابراهيم اليازجي "تنبهوا واستفيقوا أيها العرب" قائلا: "ان الحزن العميق ينتابني بسبب التمزق الحاصل في كثير من مجتمعاتنا  العربية وبسبب تهميش كلمة ’الوحدة العربية’، وعدم الادراك عن المسؤولية القومية، وعدم احترام ضرورة وأولوية حماية المدنيين، والتمزق على أسس دينية وطائفية وعرقية، حتى أكاد أستقيل من الأمل، ويجيء مؤتمركم اليوم ليثري إمكانية عودة الأمل والوضوح وتثبيت وترسيخ مسؤولية الكلمة في خضم هذا الوضع العربي العام. أنتم تجيئون من اجل استقامة البوصلة حتى نتمكن ان نسترجع المبادرة في تأمين نجاح الوحدة العربية. فالعروبة مواطنة تتجاوز الأعراق والطوائف والأقليات، وعندما نرسخ هذا المفهوم أي ان العروبة مواطنة تستقيم المعادلة لتأمين بوصلة التوجيه لهذه الأمة"، مضيفا "إنني مدرك  الصعوبات والعراقيل وأنا أشكركم على هذه المبادرة وقد يقال عني اني ’دايناسور’ ولكن انتم تعطوني ’فتوة’ لم اكن أتوقعها. فنحن في حالة كبيرة من الصعاب، فمصر الحبيبة ساحة التجسير والتلاقح بين تجارب المغرب العربي والمشرق العربي وهي التي عرفتنا على بعضنا البعض بشكل حميمي.. ’تبدو غائبة’.. فإن العودة إلى التاريخ وإلى اجتماع الشباب القوميين العرب في عام 1913 يعني ان هناك  ثوابت قومية قادرة وخارقة، فيجب ان يكون لدينا الشجاعة لنقد ذاتي لحركة القومية العربية التي ارتبطت في ذهن العديد من الناس بأنظمة القمع والديكتاتورية ولكن علينا ان نعود العروبة لانها المواطنة وحق المواطن في الكرامة والحرية والمساواة وهذه القضايا التي همشت. كادت القومية العربية ان تنجح في عام 1958 لولا الصعوبات الإدارية التي واجهتها. كما يجب التركيز على القضية المركزية فلسطين وهي القضية التي استحوذت على ولاء كل الجماهير العربية مثل ما استحوذتها كل الحركات التحررية السابقة في العالم العربي..."، "وعلينا في هذه الندوة ان نقوم بمراجعة جذرية ونقدية للإخفاقات والإمكانيات دون مسايرة بعضنا البعض، لأننا اذا لم نحدد البوصلة ستنتصر علينا الانقسامات والتشعبات والطائفيات، وعلينا ان ندرك حقيقتان: الاولى: محورية  القضية فلسطين التي لا يجب أن تعالج من خلال مفاوضات تحدد انها محتلة، لأنها بسبب التمدد الاستيطاني، إن فلسطين ليست محتلة ولكن مغتصبة. واذا كان لا بد ان يكون التفاوض شاملا ويشمل غزة واللاجئيين والقدس وأن لا ينحصر في الضفة لأن في ذلك بداية لسلوك يتعاطى مع القضية على أساس واقعية مذلة وليست واقعية منتجة لحقوق الشعب الفلسطيني. فعلينا ان نضبط المصطلحات: إسرائيل لا تحتل الضفة، هي مغتصبة لها لأنها لو كانت محتلة لكانت خاضعة للقوانين الدولية مثل جنيف الرابعة فهي لا تعترف إنها محتلة ولا تعترف في توصيف ما هي عليه في فلسطين. ولذلك ضبط المصطلح يجب أن يكون شرطا للوضوح للالتزام." أما  فيما يتعلق بما يحدث في العالم العربي، فإن هذه الدماء المهدورة أكانت في العراق او سوريا غالية علينا، ولا يجوز أن يستمر هذا الهدر، فالمعارضات غير موحدة والأنظمة غير مستعدة لحماية المدنيين، ومصر العزيزة لا تبدو إنها تريد إسقاط المعاهدة ومع أن الإسلام مكون اساسي للعروبة، فإن الإسلام السياسي ليس بديلا للقومية العربية.. مطلقا. فكيف علينا ان نجسر بين حضارتنا الإسلامية وثقافتنا الإسلامية وضرورة العروبة كمواطنة؟". "ان تقسيم السودان كانت ضربة قاضية للعروبة كمواطنة لانها أثبتت أن السودان كما هو الحال في دول عربية أخرى لم توفر المساواة في المواطنة التي يجب ان تتجاوز كل التقسيمات العرقية والطائفية. لابد للمواطنة أن تؤمن انها موحدة، نحتفل بالتنوع وليس بالتعددية، لأن المواطنة هي حرية ومساواة بين الجميع ومع المرأة.. وهي تصميم على الالتزام بالتنمية المستدامة، لأنه عيب علينا أن نكون أمة غنية وشعوب فقيرة. مسؤوليتنا ان نكون واضحين وأن نفكر بشكل دؤوب على مصير الأمة ومصير الوحدة العربية المطلوبة وملحة. فهي مسؤولية تاريخية أن تعيدوا ضبط المصطلح وأن تكون المبادرة بمزيد من التجرؤ ضد التطرف والتخلف وضد القبلية والطائفيات والتجزؤ ولذلك أشكركم لأنكم أرجعتم لي تقليصا للحزن ومزيدا من الفرح بمبادرتكم فأعيد صدى ما قاله ابراهيم اليازجي: تنبهوا واستفيقوا أيها العرب".

وأخيرا نرى من الضرورة أن تكو



 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 
حقوق الطبع 2007 - تيميس.كوم الشرق الاوسط