إغتيال جَبَل، من كتاب الدكتور ناصيف قزي





عشيّة الذكرى الثامنة والأربعين لاغتيال كمال جنبلاط في 17 آذار 1977،

أنشر هذا النصّ من كتابي "سِفْر العَوْدة وبَعد... فَصلٌ من ذاكرة "، الصادر عام 2001.

إغتيال جَبَل، من كتاب الدكتور ناصيف قزي
خَرَجَتْ الفِرَق، في المساء، من الكهوف المظلمة. نزلت إلى الساحات. حصدت السنابل قبل أن تُقْمِح، وجَمّت الورود. ثم عادَت، عند الفجر، تُكْمِل نومها الأبديّ.
مات با يزيد1... إتَّشَح "كتاب الحكمة" بالسواد... والوَلِيّات.
عادَت رابِعَة مِن كَشْفِها العُرْفانيّ، وعادَت معها كلّ العابِدات المتألهّات2. نَثَرْنَ الحبّ الإلهيّ عطراً، ذَرَفْنَ الدمع زُهداً، وجِئْنَ بالطيب والرياحين من هياكل الشرق ومعابد الإغريق.
أطْلَقَتْ السيّارات أبواقها، ومزّقَت نيران البنادق السماء. جابت مكبّرات الصوت شوارع المدينة، وردّدَت: مات با يزيد.
مات با يزيد. إنفَجَر الجبل...!؟
كنت في الجامعة، ساعة ظنّ البعض أنّها عَوْدة الطوفان. خرَجْت إلى الشارع مسرعاً. إلتقَيْت نورما وبحثنا معاً عن مارون... ذلك الذي كان يرتجف من إسمه في تلك اللحظات.
وما أن اطمأنّ عَلِيٌّ بأنّنا خرَجْنا من المدينة، حتى قفَل راجعاً إلى البيت.
لم تكن المياه قد وصلت إلى الشاطئ. فقد ظلّت محتَقَنةً في الوديان.
مات با يزيد. إنفجر الجبل...!؟ وكانت دماءٌ... وكانت دموع.
غَمَرَت المياه المنازل والساحات. جَرَفَت كلّ الأحلام الليليّة، وأزهار الربيع. انطفأت المصابيح... واخْتَنَقَت في مخابِئِها العصافير...
مات با يزيد. مات مرّتين...!؟
صعِدَ بونا نعمة الله وحيداً إلى الجبل. عَبَر كلّ الحواجز والسدود، غير آبهٍ بشيء، حتى أدرك تلك الشقعة3...!؟
وما أن دخل المعبد، حتى اقترب منه لوسيفورس وأمره بالخروج فوراً من المكان.
ولكن، كيف يَخْرج الشاهد الحقّ، للإله الحقّ، في زمن الباطل...!؟
ولما ّلم يفْعل دنا منه المأمور، من وراء لوسيفورس، وهمس في أذنه راجياً... أن يَخْرج.
حزنَ الراهب الشجاع لتعاسة المأمور... فحمل مَشْحَة الحياة، أدار ظهره للشيطان، ومشى.
وقف أمام تلك الشقعة. تأمّل العصافير الباردة... رسم إشارة الصليب... وبكى.
* * *
هوامش
1. "با يزيد": هو الإسم الذي كان يحلو للزعيم الراحل كمال جنبلاط (1917 - 1977) أن يُكَنّي نفسه به، تيمّناً بأبي يزيد البسطامي (ت. 1454)، أحد كبار المتصوّفين. وقد حَمَلَت بعض كتابات جنبلاط توقيع "با يزيد". اغتيل كمال جنبلاط على طريق الجبل في 17 آذار 1977. [لمزيد من المعلومات حول سيرة جنبلاط، راجع كتاب إيغور تيموفييف، كمال جنبلاط/ الرجل والأسطورة، منشورات دار النهار للنشر، بيروت 2000.]
2. رابعة: هي رابعة العدويّة (ت. 752)، المتصوّفة التي أدخَلَت فكرة الحب الإلهي// العابِدات المتألّهات: النساء اللواتي اشتَهَرْن بتَصَوّفهنّ؛ الوَلِيّات. [راجع كتاب سامي مكارم، عاشقات الله، دار صادر، بيروت، 1994.]
3. كان من بين المجازر التي ارتكبت بحق المسيحيين الآمنين في بعض قرى الجبل، والتي أعقبت اغتيال كمال جنبلاط، مجزرة مزرعة الشوف. وقد أدركها في حينه، لإقامة الصلاة الجنائزيّة على أرواح الأبرياء، الأب نعمة الله عون الرميشي، الراهب اللبناني، الذي عُرِف بشجاعته وبصداقته للعديد من السياسيّن، وبخاصّة للزعيم الراحل. [راجع كتابنا المذكور أعلاه، "الراهب الشجاع"، ملحق رقم 3، ص. 225.]