طرق الحرير والصراع الدولي - بقلم د. شيبان هيكل |
|
طرق الحرير والصراع الدولي بقلم د. شيبان هيكل بعد سقوط ثنائية السيطرة على العالم بزوال الاتحاد السوفياتي أخذ الصراع الدولي على قيادة العالم منحىً تصاعدياً. ففي العقدين الماضيين تفرّدت الولايات المتحدة الأميركية بقيادة العالم منذ تسعينات القرن الماضي وبداية هذا القرن. لا شكّ في أن الصراع الأساسي يدور بين الولايات المتحدة الأميركية والصين في الدرجة الأولى، وأن ما يرافقه من صراعات في أنحاء مختلفة من العالم ليست إلا إلهاء وإضعاف تحالفات كل فريق. يحاول كل فريق استقطاب ما يمكن من القوى العالمية وانشاء تحالفات متينة بوجه الفريق الآخر. هذه التحالفات تأخد أوجهاً متعددة، منها العسكرية والاقتصادية والتنموية. من الناحية العسكرية تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى توسيع حلف شمال الأطلسي وتمدده شرقاً وشمالاً وجنوباً لمحاصرة روسيا. فما انضمام السويد وفنلندا المحايدتين للحلف من ناحية الشمال، وسعي أوكرانيا على حدود روسيا الغربية، وجورجيا من الجهة الجنوبية للانضمام للحلف، سوى محاولة لتطويق روسيا عسكرياً. كما حلف أوكوس AUKUS بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا الذي تم الإعلان عنه في أيلول سنة 2021 ليس سوى محاولة لتطويق الصين من الجنوب والسيطرة على المحيطين الهندي والهادي. هذا وقد جاء في إعلان تأسيس حلف أوكوس أن الغاية منه تعزيز التعاون الدفاعي والأمني بين الدول الثلاث وخاصة أستراليا بتزويدها بغواصات تعمل بالطاقة النووية (تزامن ذلك مع إلغاء أستراليا لصفقة غواصات نووية كانت قد عقدتها مع فرنسا بمئات المليارات من الدولارات). من أهداف هذا الحلف الثلاثي الجديد هو تعزيز القدرات العسكرية والتكنولوجية للدول الثلاث في مواجهة التحديات الاستراتيجية في المنطقة، في إشارة واضحة إلى التحديات الصينية. أما من الناحية الاقتصادية والتنموية فقد تمّ احياء فكرة طرق الحرير تيمناً بطريق الحرير التجارية القديمة التي كانت تربط شرق آسيا بأوروبا مروراً بآسيا الوسطى والشرق الأوسط ابتداء من القرن الثاني قبل الميلاد. اكتسب اسم "طريق الحرير" من التجارة بالحرير الصيني الذي كان ينقل عبره. رغم أنه لم يكن السلعة الوحيدة، إذ تمّ تداول العديد من السلع الأخرى مثل التوابل، الخزف، المعادن والأحجار الكريمة، إضافة إلى الأفكار والمعتقدات الدينية. في عام 2013، أطلقت الصين مبادرة طموحة تُعرف باسم "مبادرة الحزام والطريق " (Belt and Road Initiative - BRI)، أو طريق الحرير الجديدة، والتي تعد إحياءً حديثاً لفكرة طريق الحرير القديمة.  أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ عن هذه المبادرة بهدف تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري والبنية التحتية بين الدول، وهي واحدة من أكبر المبادرات العالمية للتنمية الاقتصادية. تتألف المبادرة من مكونين رئيسيين: 1. الحزام الاقتصادي لطريق الحرير: شبكة من الطرق البرية تربط بين المدن الصينية وأوروبا عبر آسيا الوسطى وروسيا. 2. طريق الحرير البحري للقرن الـ21: يهدف إلى تطوير الطرق البحرية التي تربط بين الصين وجنوب شرق آسيا، وجنوب آسيا، والشرق الأوسط، وأفريقيا، وأوروبا. أهداف المبادرة: تعزيز التجارة: من خلال إنشاء ممرات اقتصادية جديدة تتيح تسهيل حركة البضائع بين البلدان. تطوير البنية التحتية: مثل بناء الموانئ، الطرق السريعة، السكك الحديدية، وشبكات الطاقة، وأنابيب النفط والغاز. التعاون المالي: إقامة شراكات مالية واستثمارية بين الدول. التكامل الإقليمي: ربط آسيا، أوروبا، وأفريقيا من خلال بنية تحتية قوية وعلاقات تجارية. منذ إطلاقها، جذبت مبادرة الحزام والطريق أكثر من 130 دولة حول العالم، وتركز بشكل كبير على تطوير البنية التحتية في المناطق النامية. ومع ذلك، أثارت المبادرة أيضًا بعض الانتقادات والمخاوف المتعلقة بالدَيْن الوطني والإقراض المالي الضخم من الصين لهذه الدول، والتأثير السياسي للصين في بعض الدول المشاركة. كما تعرّضت دول كثيرة لضغوط سياسية من جانب الولايات المتحدة ومنها إيطاليا التي خرجت من خط الحرير الصيني في أيلول 2023. إيطاليا كانت أول دولة من مجموعة السبع تنضمّ إلى طريق الحرير الصيني في آذار 2019. بلغت إجمالي مشاركة الصين التراكمية في مبادرة الحزام والطريق منذ عام 2013، نحو 962 مليار دولار أميركي، أي ما يقرب من تريليون دولار في مختلف القطاعات في دول العالم الثالث وخاصة الدول الافريقية عبر مشاريع استثمارية وبناء البنية التحتية وشبكات الطرقات. كما قدّمت الصين القروض المالية لهذه الدول التي جعلها مرهونة القرار للإرادة الصينية. لا شك أن العديد من الدول استفادت من المبادرة الصينية بتوسيع تعاملها التجاري ضمن الدول المنضوية. على سبيل المثال: وصل حجم تجارة الإمارات مع دول آسيا وإفريقيا وأوروبا بدعم من هذه المبادرة إلى نحو 560 مليار دولار في 2022، والتي تسهم بنسبة 90 في المئة من تجارة الإمارات غير النفطية.  في المقابل أعلنت الهند والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرها في أيلول 2023 على هامش قمة مجموعة العشرين "مشروع الممر الهندي"، وهو خط الحرير الأميركي المنافس لخط الحرير الصيني. اما الهدف المعلن من المشروع هو انشاء ممر اقتصادي جديد يربط الهند بحراً مع الامارات العربية المتحدة، ومنها عبر سلسلة من السكك الحديدية والطرق وأنابيب النفط والغاز إلى المملكة العربية السعودية والاردن وصولاً إلى ميناء حيفا في إسرائيل، وبالتالي بحراً إلى أوروبا. تخطط إسرائيل أن تصبح مركزاً عالمياً للتجارة الدولية وإقامة ممرات برية وشبكات سكك حديدية بقيمة 70 مليار دولار لتمهيد الطريق أمام "السلم الاقتصادي" عبر التطبيع مع الدول العربية. ولكن عملية "طوفان الأقصى" وما تلاها من تدمير غزة وحرب لبنان وغيرها، أخّر هذا المشروع. وما مشروع الممر المائي الذي يصل البحر الأحمر (عبر خليج العقبة) بالبحر الأبيض المتوسط (عبر حيفا) ليكون بديلاً عن قناة السويس أو مرادفاً لها إلا حلقة من حلقات ما يُخطط لمنطقة الشرق الأوسط. بالإضافة إلى هذين الطريقين: طريق الحرير الصيني وطريق الحرير الأميركي – الهندي هناك خطط ومشاريع لطرق حرير أخرى إقليمية. على سبيل المثال: 1. مشروع الشراكة العراقية التركية الإماراتية القطرية عبر "خط التنمية العراقي". وهذا المشروع يقلق إيران وإسرائيل قبل غيرهما. 2. الخطّ الحديدي الذي يجمع بين جورجيا وأذربيجان وتركيا. 3. مشروع روسيا الجديد باتجاه تفعيل ما سمّي خطّ الشمال – الجنوب التجاري، الذي تريده موسكو في مواجهة الخطّ الهندي الذي تدعمه واشنطن. الصراع العالمي يدور الآن أيضاً للسيطرة على البحار والمحيطات. فمن يسيطر على البحار يملك العالم. هكذا كان منذ الأزل حتى يومنا هذا. فالصين مثلاً تحاول احتكار بحر الصين في المحيط الهادي في صراعها مع الولايات المتحدة حول جزيرة تايوان التي تعتبرها الصين جزءاً لا يتجزأ من أراضيها وتسعى إلى ضمها عاجلاً أم آجلاً. الصراع العالمي يتجلى أيضاً في الحرب الروسية الأوكرانية التي تهدف الولايات المتحدة إلى الهاء واستنزاف روسيا من خلال الضغط العسكري والحصار الاقتصادي والعقوبات القاسية. كما يتجلى الصراع أيضاً في الشرق الأوسط من خلال الدعم اللامحدود لإسرائيل وتصفية القوى التي تقف بوجه مشاريع التطبيع معها، وإقامة ما يُسمى بـ " الشرق الأوسط الجديد". الصراع مستمرّ وقد يتطور بشكل حاد في المستقبل باستعمال أسلحة غير تقليدية وقد ندخل في حرب عالمية ثالثة، وبنتائجها ترتسم الصورة السياسية للعالم الجديد.
|