«المطبعون» الجدد





«المطبعون» الجدد

 د. يوسف الحسن

06/06/2018

- «التطبيع» مصطلح رقيق وأنيق وحضاري. يغير المزاج النفسي العربي تجاه «الدولة» المسالمة، والصغيرة المساحة، الفقيرة إلى «رب» موسى، والمحاصرة من قبل دول مدججة بالأسلحة، والمسيّجة بالكراهية الجماعية العربية والإسلامية، والمحرومة من الأمان، والمهددة من قبل «مقالع» فتيان وصبايا فلسطين، وحجارتهم، أكثر مما هي مهددة من قبل دواعش وقاعديين و«نصراويين» وأمثالهم من جهاديين «إسلامويين»، من أحفاد عبدالله عزام.

- «التطبيع»، مظهر إنساني، ومن «طبائع» الأمور، وحق طبيعي «لدولة طبيعية»، وليس من لغو الكلام وبخاصة أنها «دولة»، تحمل «صك ملكية أرض، بخاتم إلهي»، مكتوب منذ آلاف السنين، ومسالمة لم تعلن يوماً أنها تملك رؤوساً نووية، وجيشها للدفاع فقط لا غير، ومضطرة لحلب أمريكا وأوروبا وجواتيمالا والسلفادور، وجمهوريات موز أخرى، حتى تعيش بأمان، وتستر نفسها أمام عيون أطفال فلسطين الجريئة، وتبطل مفعول أشعار أمل دنقل ومحمود درويش، وتفسد استنجاد هؤلاء الأطفال بصلاح الدين الأيوبي، وعنترة بن شداد، وافتخارهم بعمرو بن كلثوم الذي قال:

ملأنا البرَّ حتى ضاق عنّا

               وظهرُ البحر نملأه سفينا

إذا بلغ الفطام لنا صبيُّ

                تخرّ له الجبابرُ ساجدينا

- «التطبيع».. يعني أيضاً أن الجباه «خرّت».. وجنحت للسلم، وللاحتضان وللعناق. وإلى آخر هذه الرومانسية «السلامية»، التي سيخرج من بطنها اللبن والعسل، وتسكت المدافع.. وربما نبيعها «خردة» ونشتري بثمنها عربات فارهة بدون سائق، وزراعة عضوية، ومزارع عنب وقنّب.. وسراويل أفغانية. ومرابع ليل وأصايل خيل، ومنتجعات على شاطئ المتوسط.

- لا بأس الآن، من تذكر المطبعين القدامى. من فنانين وكتاب ومسرحيين وأكاديميين، ممن صاموا دهراً في طاعة الاشتراكية والماركسية والليبرالية والديموقراطية، ولما أفطروا لم يجدوا على موائدهم سوى «بصلة» تطبيع «إسرائيلية». أدمعت عيونهم، وحرقت تاريخهم الثقافي.. وخانتهم عشيقتهم في تل أبيب، بعد أن منحت بعضهم شهادات دكتوراه فخرية من جامعاتها، واكتشفوا أن أسنانها «نووية». وتشبه سمك القرش الذي تجذبه وتغريه رائحة الدم، فيتطلع إلى المزيد من الدماء.

- قيل: إن بعض «المطبعين الجدد»، هم من أصحاب المشاعر الرقيقة، والأحاسيس المرهفة، وبالتالي يرفضون لغة التخوين، وتجرحهم هذه اللغة.

- ذكرني «المطبعون» الجدد، بمطبعين قدامى، حضروا في عصر «السداح مداح»، وأغاني «السح اندح إنبو، الواد طالع لأبوه»، و«الطشت قالي، يا بنت يا للي، قومي استحمي»، ورددوا مقولات «إسرائيل ليست عدواً» لصاحبها المسرحي الراحل علي سالم، وآخرين من أمثال لطفي الخولي (الماركسي الاشتراكي على صينية فضة، وسيجار كوبي، وبدلة فرنسية التصميم) صاحب «تحالف كوبنهاجن» المصري «الإسرائيلي».

- ولا أدري كيف لكاتب حقيقي، أو مثقف معتبر، لا يدفعه ضميره للقيام بدعم الضحية، وليس الجلاد.

- ويبدو أننا وعلى وقع المصائب والحرائق التي تسبب بها ما سمي بالربيع العربي، نعيش عصراً مماثلاً لعصر «السح والدح» وهو عصر «بوس الواوا». عصر العواء والمواء والغناء الهابط الذي يلوث السمع، عصر الإحباط والانهزام النفسي، وفي ظل هذا المناخ، يعانق المطبعون الجدد، قتلة ولصوصاً وقطّاع طرق وعيارين ويحلون ضيوفاً مكرمين على «إسرائيليين»، يقطنون منازل فلسطينية مسروقة.

- أصوات التطبيع مع الاحتلال: هي أصوات مدانة ومستهجنة، تهشّم ثوابت الحقوق العربية.. وترقص على جثث الشهداء. والاحتلال هو جذر القضية.

وأنا معهم في هذه الحساسية ومعاذ الله أن أكون من هذه المدرسة، لكن أتمنى على الفرسان الجدد من المطبّعين، ألا يزايدوا على عبيد الله الفقراء إليه جل وعلا، وألا يتهموننا بقصر النظر، واللاعقلانية والتفكير الخشبي، أو أننا لا نريد الخير للشعب الفلسطيني، أو أننا دعاة حروب وقتال وعداوة للتعايش والسلم.

- إن قضايا السلام لا تحل بهذه الهلوانيات و«الطلاَّت» التلفزيونية السمجة، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتقديم النفس أو الشخصية وبخاصة وهي تعتمر الغترة والعقال والكندورة، وكأنها تمثل رأياً عاماً، أو إعادة تكرار لمقولات «مطبعين» قدامى، ثبت تهافتها وسقوطها، كمقولة «معرفة العدو» وكسر الحاجز النفسي، وحواجز العداء.. الخ.

- نحن اليوم أمام عدو، في أخطر مراحل تغوّله واستيطانه وغروره وغطرسته، ولا تتوقف أطماعه وطموحات الهيمنة لديه، عند حدود فلسطين التاريخية، بل تمتد إلى حدود بعيدة، وجغرافيا مغايرة وخرائط أخرى للمنطقة.

- القضية الفلسطينية، هي من أعقد الأزمات التاريخية، وأي قفز فوق حقائق هذه الأزمة ودواعيها هو لعب «للتنس» في ملعب بدون شبكة.