التاريخ والجغرافيا والمواطن في خطر





التاريخ والجغرافيا والمواطن في خطر

أ.د إبراهيم أبو محمد

من المعروف لكل باحث في شؤون الناس والمجتمعات البشرية أن قوة أي مجتمع لا تكمن فقط في موارده الاقتصادية "المالية والصناعية" وغيرها, إنما تكمن في وحدة نسيجه وتماسك فئاته الاجتماعية بوشائجها المعروفة والتي تشكل منظومة اجتماعية قوية البنيان عميقة الجذور, لها قدرة على امتصاص الصدمات والهزات التي تواجهها, ومن ثم فهي حائط الصد عند المخاطر, تقي المجتمع شر كل عوامل الوهن التي تتخلل إليه لأي سبب، وأكبر الأخطار التي تواجه أي مجتمع هو اللعب بوحدة هذا المجتمع أو اللعب فيها.

        اللعب بوحدة المجتمع يمكن أن يكون عن طريق التوظيف السياسي للصراعات الحزبية أو الطائفية أو المذهبية كما يحدث اليوم.

        وهذا العبث يصنف في باب المخاطر بأنه "مغامرة متهورة " أو "مقامرة خاسرة تصل إلى مستوى المؤامرة إن توفرت فيها نية القصد الجنائي.

        ما يلحظه الباحث في المحيط الإقليمي وفي الحالة العربية بالذات أن الخطة المعدة والمصنعة داخل أجهزة الأمن العالمية تخطت وتجاوزت مرحلة اللعب بوحدة المجتمعات العربية، وقصدت مستوى اللعب فيها بمحاولة تفتيت وحدة النسيج الاجتماعي وفك تركيبته وحل عقدته وتمزيق خيوطه, "مسيحي مسلم "، "سني شيعي"، "سلفي صوفي ، ثم كان مؤتمر (جروزني) بموضوعه عن أهل السنة والجماعة ليكشف  حجم الغفلة والاستدراج التي تعيشها أمتنا ويقع بها في الفخ  أبناؤها, كما يعكس المؤتمر حالة الاستجابة المروعة وكيف يستعمل المال العربي في تمويل التفتيت والتقسيم والشرزمة, وليطرح سؤالا مفخخا: عن هم أهل السنة والجماعة من هم؟  أهم الأشاعرة والماتريدية؟ أم هم الوهابيون الجدد؟ وكان المهم والمطلوب هو خلق ولاءات وانتماءات ليست مختلفة فقط،، وإنما متناقضة، وذلك يعني الدفع بالمجتمع إلى حالة من الاحتراب الداخلي ليس مع الحاضر وحده بين أتباع كل فريق, وإنما يستدعي من التاريخ ماضيه ليحاكمه وينكأ من جديد جراحاته, ومن ثم الدفع بأبناء الأمة للدخول إلى الانتحار والفوضى, وقد تحقق ذلك من قبل في العراق وسوريا ولبنان واليمن.، وكان إعلام الغواية والفتنة" أو ما نطلق عليه "إعلام تأبط شرا في مقدمة أدوات التفتيت" حيث كانت الاستجابة لديه مذهلة إلى حد مخيف، فقد قام بالمطلوب وزيادة، من خلال مجموعة من برامج "توك شو" تسلطت على شعوب المنطقة وعمت بها البلوى وبخاصة في تلك المرحلة الحساسة, حيث مارست ـ الأذرع والكتائب الإعلامية - مدعومة بالمال الحرام - ولا زالت تمارس, دور المحرض على الطائفية والعنصرية, فقدمت وقودا  للكراهية انتشر من خلال رأي عام غافل وغبي يحركه التعصب الأعمى ويدفعه الحشد النفسي ليشتعل لأول وأبسط شرارة يشعلها الأغبياء أو الخبثاء.

        الغباء والخبث هنا أشقاء، يعملان لخدمة هدف واحد, غير أن الثاني وهو "الخبث" يعرف ما يريد ويفعله, بينما الأول وهو "الغباء" يعمل ما يريده الآخرون, هنا نتذكر كلمة العلامة الشيخ الإمام محمد الغزالي رحمة الله عليه حين قال: (لكي تخدم عدوك ليس بالضرورة أن تكون عميلا, يكفى أن تكون غبيا.(

        وكان من أمهات الكبائر أيضا أن يساهم الفن غناء وتمثيلا في ترسيخ هذا التقسيم ونكتفي هنا بنموذج واحد بلغ من الخطورة والفجور سقوطا غير مسبوق "إنتوا شعب واحنا شعب، رغم إن الرب واحد، ليكو رب ولينا رب" هكذا!!!  وكان ذلك مما عمت به البلوى، وما عمت به البلوى في مجتمعاتنا كثير ويصعب حصره، غير أن أسوأ تجلياته في السياسة الإعلامية يمكن تحديده في المظاهر الأربعة التالية:

1.       غياب المعايير الحقيقية في اختيار الكفاءات.

2.       غياب المهنية والموضوعية والمصداقية.

3.       تراخي الجهات الرقابية في معالجة الخلل, ورضاها في كثير من الأحيان بما يحدث.

4.       الانفلات الجماعي لبرامج "التوك شو" وحفلات الردح والشتائم الليلية 

        المظهر الأول: في عالم الإعلام تلعب الكفاءة بجانب التدريب والخبرة دورا كبيرا في إنجاح الرسالة الإعلامية, غير أن الملاحظ في الدول الدكتاتورية أن الكفاءة والخبرة لا ينظر إليها أبدا بقدر ما ينظر لولاء الشخص للنظام, ومن ثم فضمن الجنايات الكبرى للدكتاتور المستبد أن يفرض على الناس أشخاصا ساقتهم المصادفات أو المؤامرات أو الاستقطاب السياسي أو غياب الرقابة, أو غياب المعايير الحقيقية في اختيار الكفاءات, وأن يظهر على الشاشة ويدخل إلي بيوت الناس بعض المعتوهين وأصحاب العاهات العقلية ويتولون مسؤولية أمر يتصل بتربية الناس أو تعليمهم أو صياغة وجدانهم وتكوين ثقافتهم أو بناء رؤيتهم نحو الحاضر والمستقبل.

        المظهر الثاني: أما عن غياب المهنية والموضوعية والمصداقية فهذه الثلاثية شروط لا بد منها في بناء منظومة إعلامية ناجحة تحظى باحترام كل الجهات ويصبح ما يصدر منها أو يصدر عنها محل تقدير واهتمام.

        والمهنية يقصد بها كفاءة العنصر البشري وقدرته على نقل المعلومة بشكل صحيح.

        أما الموضوعية: فتعنى الحياد والالتزام بمحتوى الخبر دون إضافة أو إضفاء لأهواء الناقل للخبر, ومن ثم فلا يجوز أن يلون الخبر بلون ناقله, بمعنى آخر أن إشكالية التحيز منتفية وهناك التزام مطلق بحقائق الموضوع.

        وأما المصداقية: فتعني ثقة الجمهور في قنوات وآليات ووسائل نقل الخبر من حيث صدق الرواية وسلامة التوثيق, وبقدر التزام الوسيلة الإعلامية بهذا الشرط بقدر ما تحظى به من ثقة واحترام وتقدير, لا كمجرد مصدر للخبر فقط, وإنما كمصدر صادق وموثق للمعلومات .

        وهذه الثلاثية عندما تتحقق في المجتمعات الحرة تحمي المصالح الكبرى للشعب كما تحمي حرية المواطن وحقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية من تغول السلطة بأجهزتها المختلفة، ورأينا في المجتمعات الحرة أنها قد تسقط أنظمة وتطيح برؤوس كبيرة، ومن ثم فهي واحدة من مؤسسات حماية الشعب.

        وغياب هذه الشروط الثلاثة يلغي الفروق بين الجد والتهريج , وبين العلم والجهل, وبين المنطق والعقل من جهة, وبين الهبل وبلادة الشعور وغياب الإحساس بالشرف من جهة أخرى. أو بمعنى آخر بين الدولة وشبه الدولة 

        المظهر الثالث: إذا كنا نعلم أن ما عمت به البلوى هو شيء أو حدث أو يحدث قسرا وأغلب الأحيان قد يخرج عن حدود السيطرة,  فإن واجب الدولة أن تحاول حصر آثاره ونتائجه, وأن تقلل من حجم ما يصدر عنه من خسائر في الجانب المادي والمعنوي معا.

        أما العنصر الرابع: فهو سبب ونتيجة في آن واحد, والمتابع لبرامج الفضائيات وما تقدمه لشعوبها في العالم الثالث يمكنه أن يلحظ بعض مظاهر ما عمت به البلوى في حالات الانفلات الجماعي لبرامج "التوك شو" وحفلات الردح والشتائم لكل من يختلف مع النظام أو يتوجه إليه بنقد ولوكان من طرف خفي.

        الآثار والنتائج:

        من نتائج تعميم هذه البلايا الأربعة التي عمت بها البلوى ما يأتي:

        أن التناول للقضايا في ظل هذه الحالة غاب عنه كل ما يتصل بالعقل والمنطق وأصول الحوار، كما غابت القدرة العلمية على الإقناع ومخاطبة العقول , وتحولت البرامج إلى جلسات المصاطب التي تفتقد لأبسط قواعد الوعي ولا تعي خطورة الدخول في المناطق الخطرة والتعرض للنقاط الحساسة والحرجة في بنية المجتمع. 

        من أكبر الاثار الخطرة في ممارسات إعلام "تأبط شرا" أن استباحة مساحة اللحمة الحضارية والنسيج الاجتماعي للمجتمع بهذا الشكل الفج تتسبب في شق المجتمع طولا وعرضا  وعمقا, الأمر الذى يحول الجراح إلى قروح, ويعمق الشعور بالحزن, ويؤصل الضغائن والاحقاد, ويخلق بيئة حاضنة لكل شر جديد.

        وهم بهذا الأسلوب المتخلف لا يخدمون النظام الذي يستعملهم, وإنما يخلقون له في رحم المجتمع أعداء مع كل يوم يمر, ويتسببون في تسميم العلاقات الاجتماعية وحفر خنادق بين النظام وبين الشعب الذى يحكمه, ومن ثم تتحول عملية الترميم ورأب الصدع الاجتماعي الخطير إلى ما يشبه المستحيل.

        نؤكد مرة أخرى على ما بدأنا به أن وحدة المجتمع وتماسك بنيانه يشكلان القاعدة الصلبة في قدرة هذا المجتمع لا على البقاء فقط, وإنما علي مواجهة التحديات الخطيرة والخروج منها بسلام, لكن الذين يحفرون القبور لا يعنيهم كل شروط السلامة لأنها ضد مكاسبهم, فهم يفرحون بالكوارث وتنتشى نفوسهم بالخراب, ويرون الركام مصدرا لرزقهم ويبحثون فيه عن جثث الضحايا لا لإنقاذهم، وإنما  لدفنهم والحصول على الأجر, ومن هنا نتذكر المثل المعروف “مصائب قوم عند قوم فوائد "

        أثار تلك الكارثة بدأت ظواهرها في وصول المشكلة إلى معادلة صفرية, لن يستطيع طرف فيها أن يلغي الطرف الآخر, وفي الوقت الذي يحتاج الوطن فيه أن يعدل خطواته إلى الأمام بعيدا عن مناطق الانزلاق أصبحت الخطى عاجزة,  بعضها  تسير عكس الاتجاه الصحيح, بينما أغلبها لا يتحرك أصلا  "محلك سر" وبعضها يجري إلى الخلف بسرعة مخيفة مصحوبا بعناد وإصرار على الغرق, وبينما الوطن في حاجة لمشروع للإغاثة والإنقاذ,  فإن  التاريخ والجغرافيا والمواطن يظلون في خطر حتى إشعار آخر. ؟

المفتي العام للقارة الأسترالية