جِهادُ بالحكومة واجتهادٌ بالطائف





جِهادُ بالحكومة واجتهادٌ بالطائف

جريدة الجمهورية 28 تشرين الثاني 2016

سجعان قزي

بقدر ما يُــهمُّ العهدُ تأليفَ حكومةٍ جديدة، يُـــهِمّــه إرساءَ حكمٍ جديد أيضاً. هذا عهدٌ يَــطمَح أن يكونَ الأولَ بنوعــيَّــتِه لا الثالثَ عشرَ بترتيبِه الزمني. وبالتالي، لا يَــضيرُه التأني بتشكيلِ الحكومة ريثما يتأكدُ من الأسسِ الدستوريةِ والأعرافِ الميثاقيةِ التي سيرتكز عليها ومن القواعدِ التي ستُــدير العلاقاتِ بين الرئاسةِ والمؤسساتِ الدستورية الأخرى والطبقة السياسية (سيروا في النور ما دام لكم النور ــ من إنجيل يوحنا).

عَلاوةً عن الأسبابِ المعلَنة (الحصصُ والحقائب والأسماء وقانون الانتخاب وموعد الانتخابات)، ما يؤخّر التأليفَ أساساً هو الخلافُ على مفهومِ "الطائف" ومصيرِه بين المعنــيّين بعملية التأليف. ومن خلالِ الصراع على "الطائف" يسعى كل مكــوّنٍ طائفي، بل حضاري، لتحديدِ مساحتِه في الدولة اللبنانية في زمن تقريرِ مصيرِ الأكثريات والأقليات في الشرق الأوسط. ويترافق ذلك مع شعورِ كلِّ مكــوّنات لبنان بالقلقِ على المصير بغضّ النظرِ عن القــوّة السياسية أو العسكرية لكل مكــوّن. قبلَ "إعلان النيات" بين حزب القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر كانت نسبةُ القلقِ المسيحي كبيرة، وقبلَ انضمامِ تيار المستقبل إلى هذا الثنائي كانت نسبةُ الانزعاج السنّي مرتفعة. أما اليوم فبرز توجّسٌ لدى الشيعة من الالتفافِ عليهم بغية الحدِّ من دورهم المتنامي، فتصلّبوا واعتقلوا الحكومةَ رهنَ التحقُّـق من النيات.

لذا، تسعى الأطرافُ السياسيةُ من خلال عمليةِ تأليفِ الحكومة إلى تفكيكِ عددِ من التحالفات الأساسية القائمة: فحزبُ الله يريد أن يزعزعَ اتفاقَ "إعلان النيات" بين حزب القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر. والقواتُ اللبنانية تترافعُ لإخلاءِ سبيلِ التيار الوطني الحر من "تفاهم مار مخايل" مع حزب الله. والمكــوّن الشيعي يقيم حواجزَ للحدِّ من التقارب المنتعش بين المكونين المسيحي والسني بعدما أيّــد تيارُ المستقبل الجنرال عون. وفي نفس السياق، تُــرغِّب المملكةُ العربية السعودية الرئيسَ اللبناني بهجرِ المحورِ السوري ــ الإيراني، وتَــدعمُها دولُ الخليج وأميركا وفرنسا. أما سوريا، متجاهلةً تغيّراتِ الزمن، فـتَلتمس أن يُجدّد الرئيسان عون والحريري الاعترافَ بشرعيةِ نظامها وباستمرارِ تأثيرها في لبنان (وقَــلِّعْ يا جنرال). كل ذلك يعني أن اتفاقَ الطائف لم يَــضع حداً لهواجس اللبنانيين وأنه كان مُجردَ تسويةٍ مرحلية تحتاج إلى تعديل.

منذ ولادتِه سنة 1989، عــرَف اتفاقُ الطائف هوياتٍ مختلفةً وتطبيقاتٍ اعتباطية. هويّــــتُــه الأولى طغى اللونُ السعودي ــ الأميركي عليها فانــتُــخب الرئيسُ الشهيد رينه معوض. والثانيةُ طغى اللونُ السوري عليها فاختير الرئيسان الياس الهراوي وإميل لحود ومُـــدِّدَ لهما. والثالثةُ استعادت اللونَ السعودي ــ الأميركي نحو سنتين مع ثورة الأرز و14 أذار 2005 وانتخاب الرئيس ميشال سليمان لاحقاً. والرابعة زها اللونُ الإيراني فيها من خلال حزب الله بعد حرب 2006. وفي كل مراحل تداولِ الألوان ظلّت مختلفُ الهويّـــات حاضرةً وإنْ تَـنـحّت لبعضها البعض بغــصّـــاتٍ متفاوتةٍ.

طَوال تلك الحقبات كان دورُ رئيس الجمهورية في تأليف الحكومات مِــنَّـــةً من الوصي السوري أو "إكرامية" سياسيةً (تسوية الدوحة) منفصلةً عما يُــفترض أن يعطــيَـه إياه نصُّ دستورِ الطائف وروحُه. حان الوقتُ لأن يكونَ رئيسُ الجمهورية، رمزُ البلادِ ووحدتُها، هو ناظمُ الحياةِ الدستورية ومرجِــعــيّـــتُـــها بَــعدَ السوريّ وليس هذا الفريقُ السياسيّ أو ذاك المكـــوّنُ الطائفي.

ما يحاول أن يقومَ به الرئيس عون اليوم هو تخطي هذه الهويّـــات الخارجية المناقضةِ للولاء الوطني ولبننةُ الطائف وإرجاعُ الحق السليب إلى رئاسة الجمهورية وإعادةُ دور المسيحيين إلى المعادلة. ويفترض أن تَحظى خطوةُ الرئيس عون بتأييد كل المسلمين شيعةً وسُــنَّـــةً انسجاماً مع تصاريحهم المُسرِفة عن الميثاقيةِ والشراكة والمناصفة.

إن اللبنانيين، ولاسيما المسلمين منهم، الذين ردّدوا طَوالَ سبعٍ وعشرين سنةً أن الطائفَ جيدٌّ لكن تطبيقَه سيءٌّ، مدعوون اليوم أن يؤكدوا نظريتهم ويدعموا رئيسَ الجمهورية العماد ميشال عون في حسن تطبيقه. إذ لا يستطيع هؤلاء أن يرفضوا تعديلَ نصِّ اتفاق الطائف بحُــجّــة أنه جيد، وأن يرفضوا بالمقابل تصحيحَ تطبيقه ليصبحَ بالفعل جيداً وميثاقياً ومتوازناً.

إذا استمر هذا الموقف، لا الطائفُ سيبقى ولا الحكومةُ ستؤلَّف. سيتـحوّل رئيسُ الجمهورية مُشرفـــاً على مؤتمرٍ حواري لإعادة تكوين النظام اللبناني على أسسٍ جديدة من وحْي التناقضات التي برزت في التعددية اللبنانية وفي مجتمعاتِ دولِ المحيط عوضَ التركيز على تأليفِ الحكومة ووضعِ قانونٍ انتخابي جديد. أي أن العهدَ سيكون أمامَ السلّةِ التي تجــنّــبها قبل الانتخابات الرئاسية. ولا يخفى بأن دستورَ الطائف أدّى، من خلال طائفيته المذهبية، خلافاً للميثاق الوطني، إلى انتشار حالةٍ فدرالية لبنانية تبحث عن شرعيةٍ دستورية فلا تبقى أمراً واقعاً. كلنا نُــندّد بالفدرالية إعلامياً وكلنا نطــبّــقها واقعياً. وأكثرُ من يُــطبقها هم أولئك الذين يَرفضونها.

من هنا أعجبُ من الذين يأخذون على رئيس البلاد إشرافَـــه المباشَر على عملية تأليف الحكومة. فهل صارت ممارسةُ رئيسِ الجمهورية دورَه وصلاحياتِه عرقلةً لتأليف الحكومة؟ يجب أن نَــعرفَ ونعترف أن الأمورَ ستختلف مع ميشال عون وإلا ما كان هناك داع لانتخابِ رجلٍ بشخصيتِه وقوته وميثاقيته لرئاسة الجمهورية. لقد انتخبوا رئيساً قوياً ويتعاملون معه كأنه رئيسٌ ضعيف، وانتخبوا رئيساً ميثاقياً ويتصرفون تجاهَــه بأسلوبٍ غير ميثاقي، وانتخبوا رئيساً حليفاً ويتصرفون معه وكأنه خَصمٌ. لن يحيا لبنان طويلاً إذا استمر قرارُه الوطني خارجَ حدودِه ومرجِعـــيّـــتُــه خارجَ قصر الرئاسة.