أزمةُ الميثاقيةِ غيابُ أهل الثقة





أزمةُ الميثاقيةِ غيابُ أهل الثقة

جريدة النهار 17 تشرين الأول 2016

سجعان قزي

وزير العمل

يذكّــرني الذين يُـحــوّلون الميثاقيةَ صراعاً طبقياً ويَــفرزون المسؤولين المسيحيّين بين ممثّــلٍ ذي دمغةٍ ميثاقية وأخرَ منزوعِ الميثاقية بزمنٍ أسودَ، أيامَ فرض النازيّـــون على اليهود وضعَ النجمةِ الصفراء على صدورهم تمييزاً عن الألمان الآخرين. ويذكّرني هؤلاء أيضاً بسجالٍ دار في القرن السادس عشر، بعد اكتشاف أميركا، بين لاهوتيين إسبانيين: "لاس كازاس" Las Casas و"سوبلفيدا" Sepulveda حول ما إذا كانت للهنود روحٌ أو أن الروحَ محصورةٌ بالأوروبيين. وتبين "لِلاس كازاس" فيما بعد أن للهنودِ روحاً وهي نقية، بينما روحُ الأوروبيين مدنّسة.

أهمُّ معيارٍ للـعَلاقاتِ الإنسانية، أي روحُها، هو: الثقة. منها استولِدَت كَــلِمتا الميثاقُ والميثاقية. ويَسري هذا المعيارُ على الحياةِ السياسية حيث لا قيمةَ فعليةً لأيِّ صفةٍ تمثيلية خارجَ مفهومِ الثقة. الثقةُ أعمقُ من التمثيل الشرعي لأنها تنبثق من جَــوّانيةِ الانسان المتحرِّرةِ من كل قيدٍ أو نظام أو مصلحة، بينما التمثيلُ الشرعي هو واجبٌ دستوري نَـتج عن مجموعةِ ظروفٍ ومعطيات. إن نِلنا 99.99% من أصوات الناخبين ولم نحظ بثقتهم فنحن "أتعسُ الناس". هي الحال في التمثيل النيابي والحكومي والرئاسي في ظل كلِّ الانظمة.

غرابة كبرى هذا الانفصال، بل هذا الانفصامُ بين صوتِ المواطن وثقةِ الإنسان. إنها أزمةُ الديمقراطيات في العالم الحديث، وهي ناتجةٌ عن وجود اختلالٍ في مثلَّث التمثيل: الشرعيةُ والثقةُ والاخلاق. آخِرُ تعبيرٍ صارخ عن هذه الأزمة وعن الفارقِ بين الثقةِ والشرعية، هو ما يَـجري اليومَ في الولايات المتحدة. فالشعبُ الأميركي لا يثق بهيلاري كلينتون ولا بدونالد ترامب، لكنَّ احدَهما سيكون الرئيسَ الشرعيّ المقبِل لأميركا.

منذ القرنِ الثامن عشر لَــفت الكاتبُ الفرنسي ريفارول إلى أن "الشعبَ يُــعطي صوتَــه بسهولةٍ لكنه قلّما يمنحُ ثقــتَــه". لذا، برزت ظاهرةُ استطلاعاتِ الرأي لمعرفةِ تطورِ ثقة المواطنين بممثّليهم الشرعــيّين، وغالباً ما يَتبين أن من هو شرعيٌ ليس دائماً أهلاً للثقة؛ ولتذكير الحكام والمسؤولين عموماً بأن الانتخاباتِ التي أوصلتهم إلى سُدّة التمثيل ليست مرجعيةً نهائيةً ووحيدةً لتحديدِ الشعبية، إنما تتأثر بالممارسة. وأحدثُ مثالين هما: الرئيسُ المكسيكي، هنري بينا نييتو، الذي هبطت نسبةُ ثقة الشعب به، الشهر المنصرم، إلى 13%؛ والرئيسُ الفرنسي فرنسوا هولاند الذي حظي في آخر استطلاع بـــ 12% فقط من ثقة الفرنسيين، لا بل أظهر استطلاعُ الرأي منذ أيام أن الفرنسيين يَــثقون بوزير المالية المستقيل "إيمانويل ماكرون"، وهو ليس نائباً، أكثرَ مما يثقون بهولاند نفسِه للرئاسة.

هكذا، من كان شرعياً أمس تـعوزه الثقةُ اليوم، كما أن الصفةَ التمثيلية ليست محصورةً في عصرنا الحديث بأصحابِ المناصب المنتخَبين شعبياً، بل بكل ناشط في الشأن العام. وأساًساً إن المنــــتَــخَبَ أو الـــمُـــعَـــيَّــنَ يستمدّ شرعيتَــه من دورِه التمثيلي لا من صفتِه التمثيلية فقط، أي من خلال قيامِه بواجباته في المحافظة على مؤسساتِ الدولة والتزامِ دستورها وتأمينِ مستلزمات الجماعة؛ واللحظة التي يَـعمل فيها بعكس وكالتِه يَـــفقِدها.

اللافت في لبنان، أن الصفةَ التمثيليةَ لهذا أو ذاك ساقطةٌ جماعياً بحكمِ فقدانِ الناسِ ثقتَهم بأهل السياسة عموماً. وبالتالي، باطلٌ أن يدّعيَ هذا أو ذاك صفةً تمثيليةً "بالمفَــرّق" ولو امتلك مئةَ نائبٍ "بالروح والدم يَــفــتَــدونه". وليس أدلُّ على قرفِ الناس من السياسة والأحزاب سوى نسبةِ مقاطعةِ الانتخابات البلدية والتشريعية، والانكفاءِ عن الاحزاب السياسية، والمطالبةِ بتغيير الطبقة السياسية، وانتشارِ المنتدياتِ المدنية الفكرية، وفقدانِ الثقة بالمستقبل، واللامبالاةِ العامة، وتزايدِ الهجرة، والنأيِ بالنفس عن مؤسسات الدولة. وهذا ما أشار إليه الفيلسوفُ الانكليزي جون لوك في القرن السابع عشر عن نسبيةِ الصفةِ التمثيلية بغياب الثقة، ثم عاد الكاتبُ الفرنسي فرنسوا دوبيهF. Dubet  وفصّله في مؤلِّف أصدره سنة 2002 بعنوان "غروب المؤسسة"، إذ ربطَ ضعفَ المؤسساتِ الدستورية والسياسية والإدارية بضعفِ ثقةِ الناس بالمسؤولين عنها.

تجاه كل ذلك، متى يتواضعُ أولئك الذين يَــدّعون احتكارَ الصفةِ التمثيلية والميثاقية في كل الطوائف ويُــلغون كلَّ الآخرين؟ ومتى يسألون أنفسَهم ماذا فعلوا بهذه الصفةِ العزيزة وبوكالتِــهم المنتهيةِ مدتُها؟ ولأنهم لن يفعلوا، نحن سنسألهم: هل قُمتم بواجباتِكم ودورِكم وحقّــقتم انجازاتٍ وأدّيتم خدماتٍ للشعب من خلال مواقعِكم القيادية أو من خلال وزرائِكم ونوابكم ؟ هل نَــقلتم الشعبَ من القلق إلى الطمأنينة ومن العوز إلى البحبوحة ومن الحرب إلى السلام ومن المقاومةِ إلى الشرعية ومن الدويلات إلى الدولة؟ هل وفّرتم له الماءَ والكهرباءَ والطرقاتِ والنقلَ المشترَك وفرصَ العمل والأجْرَ اللائق والبيئة النظيفة؟ هل لديكم استراتيجيةٌ لإنقاذ لبنان وخطّــةٌ لضمان مستقبل أجياله؟

إنْ كنتم تُـــقيسون الشعبيةَ بعدد الأجساد فنحن نَـقيسها بنوعية العقول، وإن كنتم تَحسُبون تمثيلَــكم بآلات حاسبةٍ فنحن نَحسُــبه بنبضِ الضمير والموقف الوطني وتقديرِ الناس وحكمِ التاريخ. لكم نِسبـيَّــــتُــكم المجازيةُ ولنا نَســـبُـــنا الوطني. أنتم أصحابُ القضايا ونحن أصحاب القضية. لقد اعترف الآخرون بكم على مساوئكم فاعترفوا بالآخرين بفضائلهم.

لا أظنّ أن مواطناً لبنانياً واحداً انتخَب أيَّ نائبٍ لكي يعطِّلَ رئاسةَ الجمهورية والمجلسَ النيابي والحكومةَ. مثلُ هذا السلوك يُبطِل الصفةَ التمثيلية بوجهيها السياسي والشرعي ويَنقل شرعيةَ التمثيل إلى الّذين لديهم صفةُ تَــحمّلِ المسؤولية. صحيح أن لا شرعية تخالف الميثاقية، لكن الصحيحَ أيضاً هو أن لا شرعية ولا ميثاقية خارج المسؤولية الوطنية والأخلاقية، إذ ما نفعُ الشرعية والميثاقية إذا سقطت الدولة. والحكومة اليوم مع كلِّ عوراتِــها هي ما بقي من الدولة بحكم تغييب رئيس الجمهورية والمجلس النيابي. من هنا إن محورَ الموضوع اليوم ليس من هو ميثاقي فقط، بل من هو شرعي، خصوصاً وأن المسيحيين ربطوا مصيرَ وجودِهم في لبنان بالدولة الشرعية. لذا، هَـلُــمّــوا ننتخب رئيساً يُجسّد لا الثقةَ الشعبية فقط، إنما مفهومُ الدولة.