فهمي الإمام .....الفارس الذي فقدناه





فهمي الإمام .....الفارس الذي فقدناه

             بقلم: أ.د. إبراهيم أبو محمد

          المفتى العام للقارة الأسترالية

Image result for ‫بقلم: أ.د. إبراهيم أبو محمد‬‎  

 بين مدح الحاكم ومدح العالم 

        حين تمدح حاكما وهو في موقعه ومكانته، فالدافع وراء كلماتك هوى نفس تطمح, ورغبة طمع تجمح , وقصد مدخول، ومن ثم فمدحك -عند بعض الناس وليس كل الناس - مجروحا، تحوم حوله شبهة الرغبة في نيل رضاه، أو الطمع في فضل عطائه، حتى ولوكان مدحك وصفا لواقع أو تقريرا لحقيقة.

        وحين تمدح عالما وهو على قيد الحياة يحيطه بريق الشهرة، ومجد التألق والنجومية، فلربما يتهم مدحك برغبة في القرب منه والحظوة ببعض بريق الشهرة الذي يغطي عادة مساحة حول هذا العالم النجم يتحرك فيها المقربون من العالم والملتصقون به، وهؤلاء يستمدون مكانتهم من هذا القرب ويتأكد دورهم بوجودهم معه وقربهم منه.

        لكن عندما تتحدث عن عالم فقدناه فحديثك هنا مبرأ من أي شبهة سابقة ،لأنك تتحدث هنا عن قيمة غابت، وقامة ذهبت وتركتنا ، ومقام لعالم كان قد ترفع عن كل متاع الدنيا بعدما أعطى الحياة قيمتها ومعناها في واقع الناس، ووجه رؤيتهم صوب الحق فيها , وشرح سبل الهداية في جنباتها ، وتحرى بالناس ومعهم مخاطر الذلل فابتعد عنها ، ومواقع  الجدل فكف يده ولسانه عن الخوض فيها، حتى لا يجلس يوما مجلس التبرير والاعتذار ، بينما آثر وأصر أن يجلس في موقع الاقتدار،  فكان الند المقتدر الذى يملك رؤية وتصورا يدفعها إدراكا واعيا  باحتياجات مجتمعه المسلم وسط منظومة سياسية واجتماعية واقتصادية وقانونية ليست من صنع منهجه, ولا هي من ثقافته كمسلم , ومن هنا يكون التحدي حين تتجلى قدرة العالم على ممارسة أفضل الخيارات المتاحة , وتوظيف تلك المنظومة والاستفادة من بعض ما فيها ليشكل من خلالها وعيا بالواقع ، وليصنع بها ضغطا ويحدد بها موقفا ويوازن ببصيرة العالم بين الواقع والمأمول , والقدرة على تحقيق الأهداف وحساب المآلات، ومن ثم كان وجود الرجل بيننا كرمانة الميزان التي تفصل بين الخصوم بتحقيق العدل ولا تجور على طرف من الأطراف ، فلا خوف عليها أن تميل مع الهوى ولا خوف منها أن تحيف مع الشنآن.

        وحين تحيط بك مشكلات تثقل كاهلك وتتعثر معها خطواتك تسيطر عليك الكآبة، وتزداد بها هموم الحياة عليك فتشعر أن الأرض ضاقت بك، وكذلك ضاقت عليك نفسك , وذلك أشد وأقو] أنواع العذاب النفسي , فتذهب إلى العالم تشكو إليه نفسك التي تمردت عليك أو قسوت أنت عليها وأسرفت في غيها وضلالها ، فتشعر أنه كالبحر، منه ترتوى، وفيه تتطهر ، وداخل أعماقه تستر كل أسرارك، وتعود من عنده وأنت في حالة طمأنينة بعدما أفرغت بين يديه كل متاعبك وهواجسك ونقاط ضعفك وآلامك، وتعود من مجلسه متطهرا نقيا , متصالحا مع ربك ، ومتسقا مع ذاتك , غير خائف من كشف سرك أو فضح سيرتك .

        وهكذا تظهر حاجة الدنيا للعالم لأنه "كالشمس للبصر وكالعافية للناس: كما قال الإمام أحمد، لكن قدر الموت المقدور والذي يمثل أعلى تجلِّى قانون القهر الإلهي، وأعظم مظهر من مظاهر مساواة البشر، كل البشر أمام هذا القانون، قدر الموت هذا لا يفرق بين شيخ وشاب ولا بين ذكر وأنثى، ولا بين عالم مطلوب يحتاج الناس لوجوده , أو بين آخر مزهود  فيه.

        ضحايا قدر الموت من أبناء البشر بالآلاف في كل يوم، ولكن الذاكرة الإنسانية تتوقف فقط عند بعضهم. وقليلون هم أولئك الذين يرحلون عنا ويودعون دنيانا وقد تركوا بصمات غائرة في عمق النفس وفي ميادين الحياة وفي قلوب البشر الذين عرفوهم واقتربوا منهم فأدركوا  أنهم كانوا للدنيا منارات وللخير والبر علامات.

        أيها السادة والسيدات: المجتمعات التي تنعم بالسلام لابد أن يوجد بها من يتعشق الحب بمعناه العام، الحب للبشر كل البشر، والرجل الذي نتحدث عنه  جمع الله له الفهم الواعي بطبيعة المكان والزمان والناس، فكان فهمي ,  ومنحه مع الفهم الواعي حكمة السنين وتجارب الأيام والعلم,  فكان الإمام، ثم جمع الله الإثنين في واحد,  فكان هذا الانسان هو الشيخ فهمي الامام.

        فهمى الإمام – وهكذا يذكر الأعلام والعظماء والقادة - هو ابن الجالية وشيخها ومفتيها، خدمها قرابة ستين عاما، وفي سنة 2009 تم انتخابه  مفتيا للقارة الأسترالية لمدة عامين ونصف ،ثم طلب إعفاءه من المنصب لأسباب صحية، وعبر سنوات العمر طور الشيخ وبصحبة جاليته إسهاماتهم في استراليا فلم تعد محصورة فقط في تطوير العمارة وبناء المساكن، وتقديم الجديد من الغذاء في عالم المطاعم، وإنما طوروا أفكارهم فكانت إسهاماتهم في التناغم الحضاري والسلام المجتمعي ملحوظة وبارزة،  ولقد كان الشيخ هو أول من  تبنى منطق الحوار والحكمة والرحمة وحسن الجوار.

        أيها السادة، لم نتلق العلم على يدي شيخنا، ولكنا تلقينا على يديه كل معاني الأخلاق والحب والرحمة والسماحة ، وكل المعاني التي أشرت إليها هي بعض ما تعلمناه من شخصية شيخنا وأستاذنا ومفتينا الذي ودعناه البارحة، ولقد كان الفقيد عاشقا للسبق  فسبقنا في الحياة وولد قبلنا ، وعاشقا للخيرات فسبقنا في العمل والمحبة والعطاء ، ومنح الناس والدنيا كل عطائه، ولم يأخذ من الدنيا شيئا، واكتفي من الناس بأن أخذ قلوبهم فأحبهم وقدم لهم كل خدمة يحتاجونها فأحبوه من كل قلوبهم ، وسبقنا حتى في الموت لأنه يعلم أن النصيب الأوفى ينتظره هناك فغادرنا.

        أيها السيدات والسادة. محظوظة تلك الجالية التي تضم بين أبنائها الحكمة والحكماء، ومحظوظة تلك القارة الأسترالية التي يجتمع. في بعض من يعيشون على أرضها خبرة السنين وتراكم الوعي وتجارب الايام، ومحظوظة تلك الأرض أيضا حين يضم ثراها رفات الطيبين والعظماء بعد مماتهم.

أيها السادة:

خالص عزائي لكم أيها السادة الحضور ممزوجا بامتناني وشكري لأنكم أتحتم لي الفرصة الليلة لأتحدث عمن أحب لمن أحب، وها هو من نحب قد غادرنا بالأمس وأحسب – والله حسيبه - أنه ذهب لينال الحب الكبير ولينعم بلقاء المحبوب الأكبر في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر الرحمن.  

لكم جميعا بعد شكري كل التقدير والحب وعليكم سلام الله ورحمته.   

  أ.د / إبراهيم أبو محمد