كلوفيس الإنسان





كلوفيس الإنسان

د. خالد عبد الله*

حينما رحل كلوفيس كأني به كان يستأذن العروبة التي أحبها، فبالرغم من حالته الصحية إلا أنه صمم على حضور احتفال مركز الحوار بانقضاء ألف ندوة أقامها كان خيطها الناظم العروبة وهمومها وتطلعاتها. وقد كان لكلوفيس مقصود نصيب وافر في حضورها والمشاركة فيها. وليس هناك من أحد عرف كلوفيس عن قرب أو عن بعد إلا وأول ما يخطر على باله عروبة الرجل وتماهيه فيها. فقد كانت همه في الليل وشغله الشاغل في النهار. ولا يحتاج هذا إلا برهان ممن اقترب منه، فهو لا ينسى مهما كانت المناسبة أن يشغل الناس بهمومها، وأن يرهبهم بدبلوماسيته التي لا تجارى بالانشغال بها والانصراف عما هم فيه. أما من عرفه عن بعد فقد وجد عند كل منعطف برز فيه اسم كلوفيس، أو في كل شاشة كان يطل منها أن هذا الرجل ليس له إلا قضية واحدة، ولا يعرف إلا حلماً واحداً.

كل القضايا التي كان يتحدث عنها أو يشغل باله بها كقضية فلسطين التي كانت تخطو معه في كل خطوة يخطوها، وفي كل غفوة يغفوها، وتطل معه من كل نافذة يطل منها، كانت جزءاً لا يتجزأ من تلك القضية الواحدة. هذه القضايا كلها أعضاء جسم العروبة التي عشقها حتى الثمالة. كان يرى أن في صحة هذا الجسم صحة لكل أعضائه، فلسطين أو العراق أو سوريا أو ليبيا أو غيرها. كان حلمه أن يجتمع العرب على حبها بصدق، لأن في ذلك صدقهم في مقاربة كل قضاياها. وكان يتألم كثيراً عندما يرى إقصاءا لها من حياة الناس أو يشعر أن الالتزام بمضامينها ليست من أولوياتهم. كان يرى أنها البوصلة التي بدونها لا جدوى من أي حديث عن قضايا العرب المصيرية. هذه الخصيصة عرفها الناس في كلوفيس من اقترب منه ومن سمع عنه.

قلة من الناس تعرف كلوفيس الإنسان. تلك تحتاج إلى معايشة، وتتطلب مراقبةً حادةً. كلنا يعرف عن كلوفيس الدبلوماسي بالمعنى السياسي، أي أنه كان قادراً على إيصال المعنى بأقل قدرة من الاستفزاز، لكن دبلوماسيته الإنسانية كانت أرقى بكثير.

حينما وصلت إلى واشنطن لم يكن لي معرفة بأسرارها، ولا علم بأروقتها، ولا إدراك دقيق لقوى التأثير فيها. وفي الأيام الأولى لوصولي دعاني إلى غداء معه في منطقة ووترجيت. ظننت أنه كان يريد التعرف علي عن قرب، وقد كان لا ريب ذلك جزءا من نيته، لكن بعد اللقاء مباشرةً عرفت أن الغرض الأساس هو أن يجول بي معرفياً في الأروقة التي أجهلها، والإطلاع على بعض الأسرار التي لم تكن متاحة لي. لم يفعل ذلك كواعظ، ولم يقم به كمعلم، بالرغم من أنه كان كذلك. إنما بدأ في شرح تجربته في واشنطن أين أصاب وأين أخطأ، وكيف كان يتواصل مع الآخرين، وأين كان يصطدم بالمطبات. حينما انتهى اللقاء عرفت أنه سيكون لي في واشنطن ملاك حارس، وصديق وفي.

من يعرف كلوفيس يخطر على باله أنه كان سريع البديهة، لكنه يتميز عن الكثير بأن سرعة البديهة لديه تزينها الطرفة. وهنا تكمن إنسانيته، أنه لم يستخدم الطرفة ليسخر من الآخرين، وإنما كان يبدأها بنفسه. الكثير من الناس يستسهل السخرية من الآخرين، أو من نقيصة فيهم، لكن النادر أن نجد من يبدأ بنفسه. كانت الجرأة لدى كلوفيس أنه كان يقوم بذلك في المناسبات العامة وليس فقط في المجالس الخاصة. وقد كان كثيراً ما يستخدم الطرفة للإيحاء بمعنى أو التقريع.

وقد كانت مقالته المعنونه إلى المسؤولين العرب حينما حضروا احتفال البيت الأبيض باتفاق كامب ديفيد، أنه إذا  كان لا بد من أخذ الصورة "فعلى الأقل لا تبتسموا". وأذكر حينها أن هذه الرسالة كانت موضع تندر السفراء العرب في واشنطن. فقد وصلتهم الرسالة كاملة بكل معانيها ودلالاتها السياسية.

كثيرة تلك المعاني الإنسانية الجميلة في شخصية كلوفيس، لكن أكثرها تأثيراً في مشاعر الإنسان هو أنه لم يتخلف عن الاهتمام بشؤون الآخرين حينما يلجأون إليه، أو حتى عندما كان يشعر أنهم بحاجة إلى مساعدته. وقد كان يساعده على ذلك شبكة العلاقات الإنسانية التي أقامها. لم يقعده شيء عن القيام بما كان يشعر أنه عمل إنساني. وقبل وفاته بأقل من أسبوعين هاتفني بشأن صديق مشترك فقد عمله وطلب القيام بما يمكن للمساعدة. نعم لم يعقه مرضه، ولم يقعده انشغاله بحالته عن أن يبادر ليقوم بعمل فيه وفاء وإنسانية.

كثيرة ذكرياتي مع كلوفيس لكنها كلها تنبع من جمال أخلاقه، ومن شهامته، ومن تمسكه بقناعاته. كانت أيام جميلة وثرية في معانيها تلك التي قضيتها في صحبته. رحمه الله وأحسن مثواه. 

* د. خالد عبد الله: سفير سابق لجامعة الدول العربية في واشنطن