"الرسالة" هي الدفاع عن لبنان





"الرسالة" هي الدفاع عن لبنان

الدكتور فيليب سالم

23 حزيران 2015

في خضم هذه الحروب التي تفتت الارض والحضارة، ينحدر الانسان العربي من احلامه، وتتلاشى أمامه آماله. هذه الآمال التي جاءت مع الثورة العربية. الثورة التي قامت لتطيح الطاغية وتؤسس للحرية وحقوق الانسان. الا ان هذه الثورة قد اختطفها رجال ملثمون بالسواد، لا هوية لهم؛ وطلبوا منها الركوع أمام العالم كله. وأمام العالم كله، ذبحوها. "تبلّغوا وبلّغوا". لقد ماتت الثورة وقد دفنت في الرقة.

قبل هذه الحروب، وقبل ان تقوم الثورة، كان لبنان نموذجا لحضارة مميزة في هذا المشرق. كان يومها لبنان، البلد الرسالة. وها نحن اليوم، وعلى رغم كل جروحه لا يزال هذا الوطن يعانق الحياة ويرفض ان يموت. ولا تزال هناك بقايا من الرسالة تصارع لتبقى على قيد الحياة. بقايا، لكن الرسالة اصبحت أكبر. بقايا، لكن معنى لبنان اصبح اعمق. ها قد اصبحت الرسالة هي الدفاع عن لبنان.

في المسيحية، "ثالوث قدوس متساو في الجوهر وغير منقسم"، وهو الآب والابن والروح القدس. وكذلك ايضا في لبنان "ثالوث قدوس متساو في الجوهر وغير منقسم"، وهو الحرية والتعددية الحضارية والديموقراطية. هذا الثالوث هو واجب الوجود للبنان. دونه يزول معنى لبنان. هذا الثالوث هو الرسالة. وحده لبنان من جميع أوطان هذا المشرق يملك هذه الرسالة. هذا هو سره. فهو نموذج مغاير للدولة العبرية التي تحده من الجنوب وهو نموذج مغاير أيضاً للدول العربية والاسلامية التي تحده من الشرق. وقد تدّعي اسرائيل أنها موئل الحرية والديموقراطية، ولكن لا يمكنها ان تدّعي أنها موئل التعددية الحضارية. وها هي اليوم تعمل بكل قوتها، لتصبح دولة يهودية. تعمل لكي تصبح كدول العالم العربي حولها. في دول العالم العربي هذا، دين الدولة الاسلام. واسرائيل تعمل ليكون دين الدولة عندها اليهودية. وحده لبنان من كل دول المنطقة لا دين للدولة فيه. وحده لبنان يملك التعددية الحضارية.

وماذا عن التعددية الحضارية؟ البعض يقول إنها قبول الآخر. نحن نقول إنها معانقة الآخر. في "القبول" شيء من التردد، شيء من الاكراه. أما في "المعانقة" فهناك شيء من الاخوة، شيء من المحبة. و"الآخر" هو أخوك الانسان، كائناً من كان هذا الانسان وأيا كان دينه. أمؤمناً بالله كان ام غير مؤمن. هنا في هذه البقعة الصغيرة من الارض، تعيش تسع عشرة طائفة بمحبة وسلام. أربعون سنة من الحروب، ولا تزال المسيحية في عناق مع الاسلام. أربعون سنة من الحروب واللبنانيون من جميع الطوائف والمذاهب لا يزالون يقهقهون معاً في مقاهي بيروت. في كتابه، يقول موريس زلخا وهو يهودي يملك احدى كبرى المؤسسات المالية في العالم: "عندما أكون متعباً وأريد ان ارتاح، أغمض عيني، وأذهب الى مقهى في وسط بيروت". ان بيروت لم تحتضن آلامها فقط، لقد احتضنت آلام جميع البشر.

والتعددية الحضارية تتخطى حدود الاديان الى الحضارات. هنا في هذه البقعة الصغيرة من الارض تعانق حضارة الشرق حضارة الغرب. هنا تعيش وتنمو الحضارة الفرنكوفونية الى جانب الحضارة الانكلوسكسونية الى جانب الحضارة العربية، بدون وجود أي مؤشر لـ"صراع الحضارات". ان مسار التاريخ يتجه نحو عالم واحد. نحو "قرية كونية". نحو تعددية حضارية. نحو معانقة الآخر. ومن يرفض معانقة الآخر سيبقى خارج التاريخ.

ولماذا هذا الكلام على التعددية الحضارية والحرية والديموقراطية؟ هذا لأننا نؤمن بأن هذا الثالوث هو قوة لبنان الحقيقية. القوة التي لم تتمكن الحروب من تدميرها. وجئنا نتكلم عليها اليوم لأننا قادمون في نهاية هذا الشهر، أو الشهر الذي يليه الى فرصة تاريخية يجب استعمالها لإنقاذ لبنان. فمن العار علينا ان نهدر هذه الفرصة كما أهدرنا فرصاً كثيرة في الماضي. نحن قادمون الى اتفاق تاريخي بين الغرب وروسيا والصين من جهة وايران من جهة أخرى. هذا الاتفاق لن يكون مثالياً، ولن يحل جميع النزاعات، ولن يهدئ جميع المخاوف، ولكنه سيكون الخطوة الاولى لحوار جدي وعميق بين الغرب وايران. هذا الحوار سيؤدي الى رسم شرق أوسط جديد. وسينعكس هذا الحوار على مستقبل لبنان، بقدر ما يكون لبنان حاضراً فيه. حاضراً للتفاوض مع العالم. وعلى ماذا يفاوض لبنان؟ وأية أوراق يمتلكها؟ فلبنان لا يمتلك قوة النفط التي تمتلكها السعودية والكويت وايران ولا يمتلك القوة العسكرية التي تمتلكها اسرائيل؛ لكنه يمتلك قوة أقوى من قوى النفط والسلاح، هي قوة الرسالة، قوة الثالوث المتمثل بالحرية والتعددية الحضارية والديموقراطية. هذا الثالوث يجب ان نقدمه الى العالم كمدخل للحل في لبنان وفي الشرق. يجب ان نقدمه الى العالم كأقوى سلاح لدينا لمحاربة التطرف الديني ومحاربة العنف والارهاب. هذا الثالوث هو الضمانة للاستقرار. وهو الضمانة لبناء الحضارة. في حوارنا مع العالم يجب ان نقول له: أتريدون مكافحة الارهاب؟ فهذا هو لبنان. أتريدون ارساء الحرية والديموقراطية في الشرق؟ فهذا هو لبنان. أتريدون دعم التعددية الحضارية؟ فهذا هو لبنان. ونتوجه الى الغرب ونقول له: إن القضية اللبنانية ليست قضية سياسية بقدر ما هي قضية الحضارة في الشرق بل قضية الانسان فيه. ونقول له أيضاً: ها قد اهملتموه في السنوات الاربعين الماضية ولربما كنتم تعتقدون انه بلد صغير هامشي وغير ضروري. عسى ان تكونوا قد اقتنعتم بأن حجمه لا يقاس بمساحة الارض. فمساحته هي الرسالة. وهو صاحب الرسالة. والرسالة هي الطريق الى السلام.

ونتوجه الى أهلنا في الوطن والانتشار ونقول لهم: إن الاحباط ليس خياراً. ولربما نختلف في أمور كثيرة ولكن هل هناك بينكم من لا يريده نموذجاً للحرية، نموذجاً للتعددية الحضارية ونموذجاً للديموقراطية؟ وهل هناك بينكم من لا يصلي لتكون له الحياة؟ إذاً، تعالوا لنرفع صلواتنا بصوت واحد "بارك أيها الرب الاله هذه الارض واعطها نعمة السلام". الرب الاله سيبارك هذه الارض. يبقى ان نكون نحن أوفياء للأرض حتى تباركنا هي أيضاً.