سيدة نيوزيلندا... وجائزة نوبل للسلام!





سيدة نيوزيلندا... وجائزة نوبل للسلام!

د. يوسف الحسن

07/05/2019

*جاسيندا أرديرن، رئيسة وزراء نيوزيلندا. وأصغر رئيس حكومة في العالم (38 عاماً)، دخلت التاريخ كأيقونة سلام ووئام، وكسبت احترام ومحبة مئات الملايين من المسلمين في العالم، وجسدت رسالة ضد الجور والتمييز والعنف، وصانت صورة بلدها كواحة سلام.

* أدارت أزمة مذبحة المسجدين، بشكل أدهش العالم، بمواقفها ولباسها وبتصريحاتها التي عكست عمق شعورها بالغضب والظلم، وبمؤازرتها أسر وعائلات الضحايا، وتعاملت مع الحدث المأساة بشكل عقلاني وواعٍ وبحنكة سياسية غير مسبوقة. لم تشمت ولم تبرر ولم تتوتر، امتصت غضب مليار ونصف المليار مسلم بحنان ومودة وتفهم، وقادت شعبها خلال الحدث، كشعب ودود ومتحضر وصاحب ضمير حي إنساني.

* حينما مارست أمومتها. وحملت طفلتها الرضيعة في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة في شتاء 2018، أعجبتنا الصورة التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية، لكننا لم نفهم الرسالة، رسالة الأمومة، المنسية في فضاء العولمة وما بعد الحداثة.

* امرأة ديمقراطية تقدمية، والدها ضابط شرطة، وأمها مساعدة لمعلمة في مدرسة حكومية، بقيت عضوة في كنيسة مورمونية، لكنها غادرتها قبل سنوات، لأنها كما قالت «تتعارض مع آرائها الشخصية». مؤيدة للحفاظ على اللغة الماورية، وتدعم إلزامية تدريسها في المدارس. وهي لغة الشعب الأصلي في نيوزيلندا (الماوريون) والذي يشكل نحو 15 في المئة من سكان نيوزيلندا البالغ عددهم نحو خمسة ملايين نسمة.

* تُشجع انخراط (الماوريين) في العلم والمعرفة وفي البرلمان، وتطوير حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، ومواءمة تقاليدهم ومعيشتهم مع مقتضيات العصر.

* المذبحة في المسجدين، ليست مجرد عمل عنصري عابر، قام بها مجرم إرهابي، قادم من بلده في أستراليا، وإنما هناك عوامل أخرى، من بينها، ظاهرة الاسلاموفوبيا أو الرهاب من الإسلام، والتي تُغذي ضروب الكراهية الجماعية، وهي ظاهرة ليست جديدة. وتتغذى أيضاً من مفاهيم مسيحية مغلوطة، يؤمن بها أصوليون إنجيليون، منتشرون في أمريكا ودول أخرى، ومتطرفون في عداوتهم، ولهم سطوتهم اليوم في أمريكا، وسط الحزب الجمهوري، كما لهم نفوذ واسع في توجهات الإدارة الأمريكية الراهنة تجاه قضية الصراع العربي (الإسرائيلي)، وبخاصة مسألة القدس، حيث تقع في أولويات الفكر الديني الأصولي لهذا اليمين المتطرف.

وتحضرني في هذا المجال، قصة حريق المسجد الأقصى قبل خمسين عاماً، على يد متطرف إنجيلي أسترالي هو (مايكل دينيس روهان)، حيث قدم هذا المجرم من أستراليا، مثله كمثل سفاح مسجدي نيوزيلندا، لتدمير المسجد الأقصى «حتى يتمكن يهود إسرائيل، من إعادة بناء الهيكل، وبالتالي يُسرِّع من المجيء الثاني للمسيح المُخلّص، حتى يحكم العالم لمدة عام».

وقال عن نفسه: «أنا مبعوث من الله، وتصرفت وفقاً لأوامر إلهية، وبما ينسجم مع سفر زكريا».

* أما سفاح نيوزيلندا، فقد قام بزيارات قبل جريمته بشهور، إلى عدد من الدول في أوروبا، والتي كانت قبل قرون عدة، تحت النفوذ العثماني، مثل البوسنة والهرسك وكرواتيا والجبل الأسود وبلغاريا، وزار مواقع تاريخية فيها، وتحدث في بيانه المكون من سبعين صفحة، عن معركة بلاط الشهداء (بواتييه) في جنوبي فرنسا، بين المسلمين والمسيحيين قبل ألف ومئتي عام، وعن الحصار العثماني لمدينة فيينا، وعن محاولات المسلمين (أسلمة أوروبا)، وعن حروب الفرنجة وسقوط القسطنطينية، وعن لحظات أخرى للصدام بين مسلمين وأوروبيين، وذلك بهدف إثارة الأحقاد والضغائن التاريخية، بعد أن تجاوزتها أوروبا والعرب والمسلمون سعياً لبناء عالم إنساني.

* وتحضرني الذاكرة، عن مجزرة مماثلة، طالت مصلين مسلمين، وهم سجّد في صلاة فجر منتصف شهر رمضان في عام ١٩٩٤. في مسجد الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل المحتلة، وذهب ضحيتها العشرات من المصلين، وكان المجرم هذه المرة، هو الطبيب الأمريكي (باروخ جولدشتاين) المولود في نيويورك، والمستوطن في مستوطنة (كريات أربع)، وقد تتلمذ هذا المجرم على أيدي متخصصين في الإرهاب من حركة (كاخ) الإرهابية، وقد انقض عليه المصلون وقتلوه، لكنه أصبح لدى اليمين الصهيوني المتطرف قديساً. وجعلوا قبره مزاراً، وحينما سئل الحاخام الإرهابي (ليضنجر) إذا كان يشعر بالأسف على من قتلهم «جولدشتاين». رد قائلاً: «إن مقتل العربي يؤسفني بالقدر، الذي يؤسفني مقتل ذبابة».

* أسترالي يميني متطرف، يرتكب مذبحة مسجدين في نيوزيلندا في عام 2019، وأسترالي أصولي متطرف، يحرق مسجداً هو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين في عام 1969، وطبيب أمريكي يهودي متعصب وإرهابي، يرتكب مذبحة مماثلة لمصلين فجراً في مسجد إبراهيم الخليل عليه السلام في عام 1994، وأمثالهم من «الدواعش» القتلة... يقتلون من المسلمين أكثر مما يقتلون من غير المسلمين.

*والعالم... مازال يتفرج على هذه المذابح، وحدها سيدة نيوزيلندا... أرجعت بلدها، وأرجعتنا إلى حضن الإنسانية، ألا تستحق (جاسيندا آرديرن) جائزة نوبل للسلام؟